طرفة بن العبد

شعراء البلاط والتكس

تاريخه :

طفولة معذبة : عمرو بن العبد الملقب طَرفة من بني بكر بن وائل. ولد في

البحرين نحو سنة ٥٤٣ في أسرة كثر فيها الشعراء، وفقد أباه وهو طفل، فتعهده أعمامه ، إلا أنهم ظلموه وهضموا حقوق أمه وردة بنت عبد المسيح، فنشأ لاهياً يبذر ماله في السكر والمجون ، فطرده قومه وراح يضرب في البلاد متشرداً ، ثم عاد الى قومه

فارعوه الايل.

٢ – في بلاط الحبرة : أهمل طرفة رعاية الإبل حتى قام خلاف بينه وبين أخيه معبد في شأنها ، وكانت الخاتمة أن عاد طرفة الى الضرب في البلاد حتى بلغ بلاط الحيرة وفيه صهره عبد عمرو بن بشر وخاله المُتلمس ، فاستقبله الملك عمرو بن هند بحفاوة، ولكنه ما عتم أن غضب عليه لما بلغه من تجرؤ وسلاطة لسان.

٣- مقتله : هجا طرفة عَمرو بن هند ملك الحيرة ، فاضطعنها الملك عليه حتى إذا ما جاءه هو وخاله المتلمس يتعرضان لفضله أظهر لها البشاشة وأمر لكل منهما بجائزة ، وكتب لهما كتابين ، وأحالهما على عامله بالبحرين ليستوفياها منه ، وبينما هما في الطريق ارتاب المتلمس في صحيفته، فعرَّج على غلام يقروها له ، ومضى طرفة ، فإذا في الصحيفة الأمر بقتله، فحاول اللحاق بطرفة ليخبره فلم يستطع ، وفر الى ملوك غسان ، وذهب طرفة الى عامل البحرين فقُتِلَ هناك نحو سنة ٥٦٩ ، ولما يتجاوز السادسة والعشرين من عمره. وقد نُسب الى أخته الخرنق رثاة له ، كما رثاه خاله المتلمس. وهكذا مات طرفة في ربيع الحياة ، ولم يُتح له أن يُعطي للأدب ما كان باستطاعته أن ، وكان باستطاعته أن يُعطي كثيراً لأنّ موهبته الشعرية التي تفتحت منذ عهد الطفولة كانت من أعظم المواهب التي عرفتها الجاهلية . يُعطي .

– أدبه :

بن الطرفة العبد ديوان صغير في الشعر ينطوي على غزل ولهو وفخر وهجاء رصف ، وما الى ذلك مما نجده في أكثر الدواوين الجاهلية . وشرح هذا الديوان الأعلم في القرن الحادي عشر، ونشره بالطبع المستشرق وليم بن الورد

النصرانية ، ثم المستشرق سلغسون Max Selingsohn سنة ١٩٠٠. Ahlwardt في لندن سنة ۱۸۷۰ ، ثم الأب لويس شيخو في مجموعته الشعراء

المعلقة :

ا مضمونها المعلقة أشهر ما في الديوان، وهي دالية من البحر الطويل تقع في ١٠٤ أبيات افتتحها الشاعر بوصف أطلال حولة وما يتعلق بها من رحيل وما الى ذلك مما يجده في أكثر المعلقات، ثمّ انتقل الى خولة نفسها فوصفها متغزلاً ، والى الناقة فوصفها مُغْرقاً في ذكر أجزاء جسمها وظاهرات سرعتها. ثم انتقل الى نفسه مفاخراً و مفصلاً ما مر به من أحداث وما قام به من مغامرات ، ومدلباً بآرائه في الحياة والموت ، ثم انتقل الى ابن عمه مالك يُعاتبه، والى ابنة أخيه يُوصيها بأن تندبه بما هو أهل له . ثم يختم الشاعر قصيدته ببعض الحكم والآراء.

وفي هذه المعلقة شتّى الأغراض الشعرية التي عالجها الجاهليون ، والذي يهمنا منها ما هنالك من حكم وخواطر تدلُّ على نفس الشاعر الشاب الذي عبثت به الحياة فأراد أن يعبث بها ، والذي نهض في وجه مجتمعه يتحدّى مذاهبه وتقاليده في جرأةٍ وصراحة .

٢ – مطلعها والباعث على نظمها : حمل طرفة على نظم هذه المطولة تقصير ابن عمه في المعاملة وإساءته إليه في لوم وإيذاء ، ومطلعها : لِخَوْلَة أطلالٌ بِبُرْقَةِ تَهْمَدِ تَلوحُ كباقي الوشم في ظاهرِ البَدِ

وقوفاً بها صَحْبي علي مطيهم

يقولون : لا تَهْلِكَ أَسَى وَتَجَلَّدِ !

٣ – طرفة في معلقته : القسم الرئيسي في معلّقة طرفة هو الشكوى والعتاب وما جراه من آراء الحياة . ا تقدّم ذلك من غزَل، ووقوف على الأطلال، ومن وصف للناقة ، فإطار تقليدي، وذكريات تمهيديَّة، وميدان لإظهار الحذق والبراعة في مجالات التنافس

والمباراة .

 

شعراء البلاط والنكر

۱ – طرفة بن العبد جاهلي مُغرق في الجاهلية روحاً ولغة وأسلوباً. التمسك بمذهب الجاهلين في تركيب القصيدة من وقوف كلاسيكي بالطلول ، الى فهو شديد وصف الظعن الحبيبة ، الى وصف تفصيلي لسفينة الصحراء ، الى شتى الاغراض التي تخطر لابن البوادي وطرفة الى ذلك أشدّ ما يكون اقتراباً من خطة امرئ القيس في التبع والتشبيه الحسي والاندفاق الشعري، وإنك لتجد بعض المعاني مشتركة بين الشاعرين.

نفْسه وَلَسْتُ بِحَلالِ التَّلاعِ مَخافَةً وَلَكِن مَتَى يَسْتَرْفِدِ القَوْمُ أرفدا وَإِنْ يَلْتَقِ الْحَيُّ الْجَمِيعُ تُلاقِي إلى ذُرِّوَةِ البَيْتِ الكَرِيمِ المُصَمَّد كَريم يُرَوِّي في حياته مخافةَ شُرْبٍ في المَاتِ مُصردِ

وفضلاً عن ذلك فطرفة شديد الإغراب في وصف الناقة حتى لتحسب أن ألفاظه ومعانيه من أقصى الجاهلية . وفي خواطره نفسها تجده جاهليّاً يتمسك بالمروءة الفطرية ، والتعالي القبلي، والنجدة السريعة ، والكرم البدوي ، والمفاخرة بشرب الخمرة ، والأخذ ببعض المعتقدات ولو في شيء من الاستخفاف :

– وعلى تمسك طرفة بواقع الجاهلية تراه يمتد الى ما بعدها في ومعاني الحقائق الوجودية فهو يتمسك بالعصبية القبلية على أنها سانحة نجدة ، وميدان بَدْلٍ ، ومُنطَلَقُ مفاخرة مما يُرضي روح الفتوة فيه ؛ ولكنّه يتنكر لها على أنها قيد اجتماعي يُضَيقُ الآفاق ويخنق الآمال ، وذلك أنه لتي من ذوي قرباه ظُلماً فقد عبثوا بحق أمه وردة وأطفالها ، وشردوه كالبعير المعبد، وعندما عاد الى حيه أَرْعَوْهُ الإبل وتنكر له أخوه معبد ، كما تنكر له بعد ذلك صهره عبد عمرو بن بشر وأغرى به ملك الحيرة … هذا في المكان والزمان

كله. حمل الشاعر على النظرة الانسانية التي لا تحصر الوجود في القبيلة أو في العشيرة :

وَمَا زَالَ تَشْرابِي الخُمورَ وَلَنَّنِي ، وينعي وَإِنْفَاقِي طَرِيقي وَمُنْلَدِي إلى أن تَحامَتْني العشيرة كلها

وأفرِدْتُ إفرادَ الْبَعِيرِ الْمُعْدِ

التلاع الأمكنة المنخفضة يسترفد : يطلب الرفد أي الإعانة.

المصمد أي البيت الذي يقصده الناس.

مصرد: أي مقطوع بالموت

المعيد: المطلي بالقطران لإصابته بالحرب.

٤–

 

في موكب المعلقات : طرفة بن العبد وَظُلْمُ ذَوِي الْقُرْبَى أَشَدُّ مَصَاضَةً ، عَلَى المَرْءِ ، مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ الْمُهَنَّدِ

۲۳۳

وهو يتمسك بالتقاليد الجاهلية على أنها بناء أمجاد ، ولكنه يتنكر لها على أنها جمود فكري وقيد حضاري. ولهذا نهض في وجه العُرْف والرأي السائد ، ومذهبه في ذلك أنّ العقل يفسر التقاليد ويطوّرها ، ويتناول العقائد ويتخلها ؛ وفي الوجود ظاهرات طبيعية لا شك في حقيقتها ، فعلى الإنسان أن يعتمدها في تفهمه للطبيعة ولما وراء الطبيعة . ومما لا شك فيه أن في هذا الموقف جرأة شديدة ، وكان طرفة مفطوراً على الجرأة الصريحة ، وقد تجلت لأعمامه الظالمين عندما كان طفلاً فقال لهم :

ما تَنْظُرُونَ بِحَقِّ وَرْدةَ فِيكُمُ صَغُرَ البَنونَ وَرَهْطُ وَرْدةَ غَيب حَتَّى نَظَلَّ لَهُ الدِّمَاءُ نَصَبُ قَدْ يَبْعَثُ الأَمْرَ العَظِيمَ

 

٢٣٤

شعراء البلاط والتكسب

والظلم فرق بين حبي وائل ؟ بكر تُسافيها المنايا تَغْلِبُ وتجلت جرأته عندما أخذ على خاله المتلمس استعمال لفظة ، الصيعرية ، في شعره ، وكان المتلمس من أشهر شعراء زمانه وطرفة غُلاماً يلعبُ . أترابه ، سمع ، فعندما خاله

بنشد وَقَدْ أَتَاسَى الهَمْ، عِنْدَ احْتِصَارِهِ، بِنَاج ، عَلَيْهِ الصَّبْعَرِيَّةُ ، مُكْدَم !

صاح قائلاً: «قد استنوق الجمل ! » لأنّ «الصيعرية، سمة توسم بها النوق دون الجمال، فغضب خاله وقال له : «ويلٌ لهذا من هذا أي ويل لهذا الرأس من هذا اللسان ! وتجلت جرأته في مواقف أخرى كثيرة ، وليس من الغريب أن تنقلب هذه الجرأة تحدياً للعرف والمذهب :

ألا أيُّهاذَا اللَّائِمي أَحْضُرَ الْوَغَى ، وَأَنْ أَشْهَدَ اللذَّاتِ ، هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي ؟! فإن كُنتَ لَا تَسْطِيعُ دَفَعَ مَنيَّنِي فَدَعْني أَبَادِرُها بِمَا مَلَكَتْ بَدِي قدرني أُرَوِّي هَامَني في حياتِها ستَعْلَمُ إِنْ مُتْنَا غَداً أَينَا الصَّدي”

– وطرفة بن العبد شاعر جاهلي لا يعرف المراوغة والرثاء ، ، وهو شاعر شاب في عنفوان الشباب، تعصف به القوى الحياتية عصفاً يتحدى الحياة نفسها ، وتحمله على

العبث بالوجود في سبيل الموجود، فيكب على دنيا المتعة بكل جوارحه، ويعترف

بذلك اعتراف من لا يهاب موتاً ولا يخشى ملاماً إنها الصراحة التي .

والجرأة التي ترافق الصراحة في هزء وازدراء.

حطمت القيود ،

قيمة المعلقة وفلسفة صاحبها :

الحياة تنهي . تأمل بعيد المرامي : آراء طرقة نمرة تأمّل بعيد المرامي ، إنه نظر في الوجود فرأى عند الموت ، ورأى أنّ الموت خاتمة المأساة ، فحر ذلك في نفسه ، وراح

التاجي الخير الصيمرية جد في على الناقة لا البعير هامي كان العرب الأقدمون يعتقدون أن طائراً اسمه الهامة أو الصدى يخرج من رأس القتيل ويصيح نولي، استقولي إلى أن يؤخذ بثأره

 

المعلقات: في موكب طرفة بن العبد

٢٣٥

يجبل يفكر في طريق السعادة، فوجد أن السعادة وهمية في حياة تنهي باللاشيء، وراج النظر في بيته وفي نفسه، فوجد أن البيئة تعمل عليه الفروسية فاعتى مذهبها ، وأن على عليه المتعة فاعتق مذهبها في مصدريها الحمرة والمرأة

فلولا ثَلَاثَ هُنَّ مِنْ لَذَّةِ الفَتَى، فينهُنَّ سَبِي الْعَادِلاتِ بشرية وكري ، إذا نَادَى المُضَافُ، مَناً وتقصير يوم الدَّجْنِ ، والدَّجنُ مُعجِب، وجدكة، ثم أحمل قام عودي ما تعل بالماء تريد كسيد القضاء نبهته المتورد بهة تحت الحياة المحمد

وهو في مذهبه المزدوج يستمد يقينه من تفاهة الوجود ، ولا يرضى عن هذا اليقين إقلاعاً ، وإن اعترض عليه معترض أو لامه لانم، احتج عليه بطلب المستحيل، أي مطلب الخلود على وجه هذه الأرض – إذ لا خُلود في نظره بعدها . ومن يستطيع إخلاده على وجه الأرض ؟!

٢ – نزعة وجودية : وإنَّ في أعماق نفس الرجل لألماً جسيماً بحاول أن يطويه في ضباب الفروسية والمتعة ، وهو في ذلك يقاومُ العُرف الجاهلي لاعتقاده أن التقاليد غير الحقيقة، وأن ما يدعونه محرّمات ليس سوى وهم قائم، وأن لا حدود بين الرذيلة والفضيلة ، وأن الفخر بالرذيلة هو كالفخر بالفضيلة وهو من ثم يسير في طريقه الحرة الثائرة في جرأة وصراحة، نابذا التقاليد، ساخراً مما يعتقد الناس؛ وهو في ذلك وجودي النزعة ، يخرج في شعره عن أسلوب الجاهلين الذين يقفون عند الظاهرة البتوغل في ما وراءها ، وينطلق في أجواء التفكير الوجودي في ثورة حائرة بين تقاليد الفروسية التي لا يستطيع التخلص منها لدافع نفسي فيه ، وتقاليد الحياة والموت التي ينبدها لميل مادي ينبثق من عقيدة وجودية عنده. وهكذا ينشأ في ذاته صراع بين تقاليد

متى قام عودي أي منى من وجل : الواو للقسم Y كميت : صفة للمرة ذات اللون الأحمر إلى سواد. الحبل: الذي في يده الحناء السيد الذيب البهكة: المرأة الحسنة الخلق.

 

 

٢٣٦

شعراء البلاط والنكس

يحتفظ بها وتقاليد ينبذها ، هو صراع القلق الانساني ، هو صراع الكفر والإيمان و ي

نفس الانسان .

– حياة وشخصية : وهكذا عرض طرفة لمعضلة إنسانية ، وكان شعره معبرا عن تجربة حياتية عميقة ، وكان من ثم إنسانياً . وهو يبسط آراءه في لهجة اعترافية ، بعيدة عن التمويه والرثاء. ومهما يكن فيها من ضلال في تفهم حقيقة الحياة ، ومن إغراق في المادية ، فهى آراء نابضة بالحياة، شديدة الالتصاق بشخصية الرجل ، لا تخلو من التماعات تفكيرية تطل علينا بجيل جديد يحاول التخلّص من التقاليد الجاهلية العقيمة، ولا يقوده تفكيره الى غير المادية لأنه لم يجد مذهباً آخر ينقذه من ذاته الهاربة أمام مجهول لا يقوى على حلّ رموزه .

بعض التسلسل والتحليل : وطرفة في سلسلة آرائه لا يخلو من بعض التسلسل ، وهو يحاول أن يدعم الرأي بالحجة وحجته الكبرى في أن الموت قريب وفي أن ما بعد الموت أمر غير معروف، والمعروف الذي لا شك فيه أنّ في الحياة طيبات وجدت له ، وما عليه إلا أن يعيش مرضياً حاجات نفسه وجسده .

ه أسلوب جاهلي : وأسلوب طرفة في تعبيره هو أسلوب الجاهليين الحسي التشيهي، وهو هنا غيره في وصف الناقة حيث أغرب ما استطاع الإغراب ، فهو يسير في سهولة وصفاء ، وينتهج نهج الهدوء الذي تثقله الفكرة ويخيم عليه القلق الحزين ، وتنهض به أحياناً عاطفة المفاخرة الجاهلية التي تمد فيه عصباً قوياً في غير قسوة ولا عنف.

غنائية رومنسية : ومما لا شك فيه أنّ غنائية طرفة في خواطره أقرب ما تكون الى غنائية الرومنسية الحديثة، إنها غنائية الثورة الفكرية وإن لم تخرج عن كلاسيكية الأسلوب العربي القديم.

– طرفة وزهير وامرؤ القيس : كان زهير يكره الحياة وإن كان متمسكاً بها، وقد كرهها طرفة لأنها لا تدوم، وبقي كره زهير للحياة في حدود التأوه فقط ، أما كره طرفة لها فقد كانت نتيجته مهاجمة الموت واستغلال الحياة القصيرة. وفيما يمثل طرفة فلة العابثين الساخرين الذين يشكون في كلّ شيء لا يكون المادة والحاضر، والذين

 

 

في يريدون ، مع كل ذلك المحافظة على الصفات العربية ، يمثل زهير فئة المؤمنين بالحياة الأخرى التنازعين نزعة روحية . وإن كانت الروح عندهم غارقة في المادة –

موكب المعلقات: طرفة بن العبد

المتمسكين بالفضيلة البدوية العفيفة. وكان امرؤ القيس فتى اللهو والتشرد كطرفة ، إلا أنه كان أقرب الى التحنث ، فيا كان طرفة في شعره أشد رجولة، وأنقذ قولاً ، وأبعد مدى، وأوسع آفاقاً .

-1 المعلقة. ه طرفة شاعر الغزل والوصف : أما الغزل وأعني بنوع خاص ما ورد في فهو وصف أكثر مما يسمى غزلاً ، وهو وصف مادي وتشبيه حتي ، لا يحوي اختلاجاً ولا اضطراباً ، ولا ينبض بالحياة ، ولا يجاري غزل امرئ القيس في الحوار والقصص، والشاعر يمر به مراً، ويوطى به لوصف الناقة وللحكمة.

٢- وأما الوصف. ولا سيما وصف الناقة – فهو ميدان واسع للمباهاة والمنافة، وقد بذل الشاعر كل ما بوسعه ليكون الوصف كاملاً يحوي من الألفاظ الغريبة والموسيقى القاسية ما يضطرب في جو من الضخامة الفريدة في نوعها. وكأني بطرفة قد ربط ناقته إزاءه وأخذ يرسم أجزاءها رسماً دقيق المعنى يرتقى على الخيال الأسطوري شديدة الانطلاق وثابة الخُطى ، وإنك وأنت تقرأ هذا القسم من المعلقة لتشعر بأنك في بلاد الملاحم والغرائب، وأن طرفة يندفع / أن يتباهى بالمعرفة والسلطان على التعبير والتشبيه ، وتشبيه متراكم تراكماً يحملك على الظن أن كل ما في هذا الوصف صور وأصباغ أو حركة وحياة، وطرفة يعنى عناية خاصة بالتاثير، وهو يرمي إليه عن طريق الضخامة والموسيقى، وهو في موسيقاه أجنحة من اندفاعا شديدا ويريد

الشعرية يحاول أن يجعل النغم صدى للمعنى وصورة له ، فإذا قال مثلاً : نهاية الْعُشْنُونِ، مُوجَدَةُ الفَرا . بَعيدَةُ وَحْدِ الرّجُلِ ، مَوَّارَةُ اليَدا جنوح ، دفاق ، عَنْدَلٌ ، ثُمَّ أُفْرِعَتْ لَهَا كَتِفاها في مُعالَى مُصَعْدِ

١ صهاية العُنون : حمراء الشعر تحت اللجي، واحمراره مشوب بياض. موجدة القرا: شديدة الظهر الوحد نوع من العدو. الجنوح: التي تميل في سيرها نشاطاً – الدفاق : السريعة. العندل: الكبيرة الرأس – أفرعت : ارتفعت .

 

شعراء البلاط والتكر

ويديها.

شعرت بالناقة مندفعة أمامك ، وتخيلتها في حركتها وغليانها وتتابع انتقال رجليها

وكأني بطرفة بختار لهذا الوصف اللفظة التي تدل بحروفها على القوة والشدة ، فكثر من التشديد ، ويكثر من الصفات المتتابعة ، والإضافات ، وما الى ذلك من الأساليب التي تزيد بموسيقاها الموقف سرعة وانطلاقاً ، وتمثل الشاعر متتبعاً ، وهو ينظم حركة الناقة وحيويتها، وحركة نفسيه الشعري وجيشانه ، فيقول مثلاً :

وَعَيْنَانِ كَالمَاوِيتَيْنِ اسْتَكَتَنَا

بِكَهْفَي حِجَاجَيْ صَخْرَةٍ قَلْتِ مَوردا

1 – شاعر المدح :

مدح طرفة المناذرة بالحيرة ومدح غيرهم كسعد بن مالك ، ومدحه وجيز يدور حول الصفات المعهودة التي نجدها في كلّ مدح من كرم ، ونبل أصل ، وطلب العلى؛ ولكننا لا نجد في مدحه تذللاً أو تزلُّفاً بل نشعر أنّ نفسه تنبض بالشهامة والعنفوان

والكرامة .

ل خاتمة :

هذا هو طرفة بن العبد بل هذا هو الشباب النابض بالحياة وبالشعر، وهذا هو العقل الذي فكر فطغت على تفكيره العاطفة الفياضة ، وهذه هي المخيلة الصاخبة التي لم تخرج في صخبها عن الواقع المحسوس ، ولم تُبعد النطق عن الصراحة والصدق . وطرفة ، على تطرفه وضخامة ألفاظه ، رقيق قريب الى القلب، نحبه وإن أبغضنا انحراف سيرته و بعض آرائه ، ونحترم على كل حال نفسه التي تألمت ويئست ، وربـ ست ، ورب نفس كـ عليها وظلم ذوي القربى !

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .