جريمة أم بطولة جواد بولس

 

1

أصدرت لجنة المتابعة العليا لقضايا الجماهير العربية في إسرائيل بيانًا شاجبًا وذلك على أثر ” العمل الإجرامي الذي وقع في مقهى في تل أبيب ” وأكّدت فيه أن ذلك العمل الاجرامي ” يستحق كل استنكار فهو يتعارض من حيث الجوهر مع طريق نضالنا الديمقراطي والشرعي الذي اختارته الجماهير العربية بكل تياراتها”.

لم يحظ، برأيي، بيان لجنة المتابعة المذكور بما يستحق من قراءة ونشر في وسائل الاعلام المحلية والعربية، وذلك على الرغم ممّا احتواه من مضامين ومواقف سياسية هامة ميّزته عن غيره من بيانات الشجب التقليدية التي نشرت، هنا وهناك، بعد “العملية” وكانت من باب إعفاء أصحابها من استرابة الدولة واستهداف مؤسساتها لهم، فلدى البعض كانت تلك مجرد”عملية “ومن قام بها دعيّ، كما استملحت العرب ودرجت أقلامها على وصف الفاعلين بمثيلاتها، على أنّه “منفذ العملية” .

 

شهيد أم ماذا؟

لسنوات خلت عانت قواميس نضالاتنا الشعبية من فوضى المصطلحات الوطنية والوطنجية، التي ولدتها وكرستها، عمليًا، رمادية سياسية استوطنت في ربوع معظم الأحزاب والحركات السياسية العربية، لا سيما عندما اضطرت جميعها إلى العمل تحت سقف لجنة متابعة ضعيفة ومستضعفة، سيّرت أعمالها محركاتٌ عملت بقوة بخار المطابخ السياسية وطاقة فحم المصالح والصلحات والتوافقية القاتلة.

فعلى الرغم من بيان لجنة المتابعة المذكور، من الصعب أن لا نستشعر انتشار الفرح  في العديد من الجيوب الشعبية وبعض حواضن تلك الاحزاب والحركات السياسية، التي يعبّرالبعض في دواوينها ومجالسها،أحيانًا، عن الرضا الكامل من نتائج عملية تل أبيب وسقوط ثلاثة قتلى فيها، حتى ذهبت مجموعات ووصفتها “عملية مقاومة”  فذّة، ووسمت منفذها/ قتيلها على أنه شهيد ارتقى على مذبح مصالح الأمة ومن أجل خير أبنائها.

 

ولذلك تأتي الأهمية الخطيرة لبيان المؤسسة الأولى والأهم التي تمثل جميع القوى والأحزاب والحركات السياسية والدينية الفاعلة بين الجماهير العربية في إسرائيل، حين أكدت فيه على أن: ” لجنة المتابعة بكل ألوان القوس السياسي في المجتمع العربي اختارت طريق نضال سياسي وديمقراطي ثابت ودائم منذ قيام الدولة..”

فهذا من جهتها إشهار موقف حاسم في وجه كل من أراد “خربطة”- خلط أوراقنا السياسية وحرث ميادين عملنا الكفاحي بسكك هجينة عن مزارعنا وبثيران مستوردة مدمرة لترابنا وزرعنا.

فما حصل في شارع ديزنغوف في تل أبيب هو عملية إجرامية مستنكرة، بلا “إذا” وبلا “ولكن” وبدون تأتأة ولعثمة.

أخلاق ومقاومة

لو كان “منفذ العملية” فلسطينيًا من المناطق الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧، لاستدر فعله نقاشًا مغايرًا، أو ربما موقفًا آخر، ولاستجلبت نتيجة فعله رزمة من أسئلة طالما طفت مع دماء جثث سقطت في عمليات نفذها ثوار شعوب كثيرة أثناء نضالاتها في وجه محتل أجنبي غاصب لبلادهم.

فما بين الأخلاق والمقاومة نبت دومًا تساؤل وهاجس كبيران ،واقتحما ساحات نضال الثوّار، وأوقدا عقولهم، وفي كثير من الأحيان تسببا في صراعات بين أشقاء السلاح والاخوة في الخنادق.

لكنها مسألة كبيرة ومعروفة، ونحن لسنا في معرضها هنا، مع أنني أرى أن في فلسطين المحتلة تسود حالة من “الالتباس الأخلاقي” غير المحسوم، فمسألة الكفاح المسلح المنظم ضد الاحتلال، هجرت عمليًا في الوقت الحالي، وتركت من غير معايير وضوابط وطنية واضحة وصارمة، ممّا أبقى الحاجة إلى تأمين تفوق الفلسطيني الأخلاقي على المحتل قضيةً مشوشة ومشروخة، وكأنها ليست ذات أهمية، لا سيّما وبعض الفلسطينيين يبررون إهمالهم لتلك المسألة، بما يمارسه، في حقهم، المحتلون وجيوشهم، من موبقات وجرائم لا تعرف الأخلاق ولا الوجع، وبموقف العالم إزاء كل ما يحدث.

لقد شهدت حلقات الثوار والمفكرين خلال التاريخ الحديث للعمل العسكري، نقاشات بدأت ولن تنتهي، لكن ضرورة تفوق المحتل والمهزوم عسكريًا، في المسألة الأخلاقية، على طغاته، بقيت مسألة أثيرة عند كثيرين، خصوصًا ونحن نعيش في زمن قد تكون فيه القوة هي الضابطة لمعايير الحق أو حتى لمفاهيم الأخلاق؛  لكننا، وكما أسلفت، في حِل من هذا الخوض، لأننا، كمواطنين في الدولة، اخترنا أن يكون نضالنا نضالًا سياسيًا ديمقرطيًا وشرعيًا، كما أعلن وأكد كل قادة هذه الجماهير مجتمعين، وبلسان ذرب وفصيح.

 

الحرب خدعة

 

مئات القصص والشائعات ملأت شوارع القرى العربية وساحات مدنها. ضباب كثيف خيّم على جميع المطارح، وكأن أحدهم عمد على خلق هذه الأجواء، حيث تتكاثر النميمة وتتساهم الشكوك وتترامح الفرضيات.

هناك من استهوته فكرة البطولة فقهقه على كيف “ضحك ابن البلد” على أمن إسرائيل ونجح بالزوغان منهم، ومنهم من بدأوا بكر طبة الصوف ليحوكوا أسطورة النصر والعجب.

قادة اسرائيل، من جهتهم، ركبوا على ظهر “بيجاسوس” ، ذلك الحصان المجنح الخيالي، وانطلقوا، ومهاميزهم ضحايا قضوا نحبهم على نصل حظ، في وسط تل -أبيبهم الكبيرة، وطاروا صوب أهدافهم: عربًا ضاعوا بين رجلي فحولة وبطولة وفكي خديعة.

هنالك إجماع واضح بين البشر، يفيد على أن قوات الأمن الاسرائيلية، التي حاصرت البيت الذي استقر فيه القاتل من تل ابيب، كانت تستطيع اعتقاله، ولم تكن لديها حاجة قتالية للتخلص منه .

كثيرون بنوا أطنانًا من الافتراضات حول ما كان وراء القرار الإسرائيلي  بالتخلص من القاتل، وكلها لا تتعدى كونها فرضيات لن تساعد، برأيي،  اذا ما فككناها بمعاول منطقية جميع أولئك الذين يصرون على أن منفذ العملية هو بطل قومي.

ولكنها كانت كأنها حرب، والحرب خدعة،  ولذلك يبقى كل ماقيل محض خيال واجتهاد، وتبقى الحقيقة ناجزة وصارخة: فالخسارة “بينهم” موت ثلاثة أبرياء،  والخسارة بيننا، نحن الأقلية العربية، أكبر والجرح أعمق، فها نحن مجددًا صحونا كفرائس تواجه تلك  القطعان التي  “ستموت” لتنهش لحمنا الغض.

وعَود على بَدء، فبيان لجنة  المتابعة العليا يشكل نقطة ضوء في بحر من الظلمات، ويثبت شمعة في درب الجماهير الوعرة ، لكنه بحاجة إلى ما يحوّله مصابيح تنير مفارق دروبنا فكم مرّة قيل وقلنا:
مياديننا هنا وما، يصح في رام الله وعسكر والخليل لن يصح في عرعرة ويافا والجليل.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .