في فلسطين، شباط اللبّاط ريحة الحرية فيه جواد بولس

 

في فلسطين، شباط اللبّاط ريحة الحرية فيه

جواد بولس

 

قد يتحول يوم الثالث عشر من شباط الجاري إلى محطة مفصلية في حياة الحركة الأسيرة الفلسطينية وخطوة وطنية استنهاضية على طريق إعادة الوحدة العضوية لجميع فصائل العمل الوطني والإسلامي الفلسطيني؛ وإن ما زالت تلك الأماني في رسم التكهن وعرضةً للاختبار، سيبقى إعلان الأسرى الاداريين عن “مقاطعتهم كافة محاكم الاعتقال الاداري مقاطعة شاملة ونهائية غير مسقوفة زمنيًا ” بمثابة البشرى لانطلاقة واعدة نحو إعادة ترتيب علاقة الحركة الأسيرة بسجانـها الإسرائيلي، وذلك بعد سنوات  طغى فيها الالتباس وغشت “فوضى العشائر” عيون المناضلين والحكماء، وتفشت تقليعات هجينة وطارئة شوّهت موروث المناضلين المؤسسين وأشاعت حالة من العمى المؤذي والانحراف عن مسارات الصمود والأمل.

علّق البعض على اعلان الخطوة بأنها جاءت متأخرة، وآخرون تساءلوا عن جدواها وذريعتهم تستجير بحالة الحركة الأسيرة الداخلية. في المقابل هنالك قلة تراهن على فشل الخطوة  السريع وعودة أوضاع الأسرى إلى ما كانت عليه؛ ففي فلسطين لن يقلع طائر الرماد وكثيرون يسكبون الماء ويطفئون ما تبقى من جمر النضال والعزة والصمود، هكذا يدّعي هؤلاء.

من كان أسدًا فلا حاجة لأن يزأر

في الواقع من يقرأ بيان الأسرى ويدقق في سطوره وبين كلماته يرى إنهم استقدموا بعض تساؤلات الناس وحاولوا وضع الاجابات عليها بوضوح وذلك من خلال مراجعة صادقة لتجربتهم  واقرارهم  أن إسرائيل عمدت إلى تصعيد حملاتها الاعتقالية منذ انتفاضة عام 1987، وعلى الرغم من محاولة أجهزتها الأمنية تغليف هذه الاعتقالات الادارية بإجراءات قضائية فهذه لم تكن في الواقع إلا مسرحيات؛ والمحاكم، على أنواعها ودرجاتها، كانت مجرد أدوات تنفيذية تعمل بإيحاء وتحت تأثير جهاز المخابرات العامة ووفق سيناريوهات مكرورة حتى الملل وخالية من قواعد التقاضي النزيه، حيث لا يملك أمامها المحامون فرصة  للدفاع الحقيقي عن موكليهم الأسرى الذين يؤسرون، أصلًا، من دون أن يواجَهوا بتهم عينية ولا ببيّنات مكشوفة، وكل مايقدم للقضاة يكون عبارة عن مواد سرية وملفات مكتومة يطالب، بناء عليها، ممثلو النيابات العامة بسجن الأسير لأنه وهو حر يشكل “خطرًا على أمن وسلامة الجمهور” !

علاوة على هذا التوصيف الصحيح  والاستنتاج الضروري يؤكد بيان الأسرى على قناعاتهم بأن القيّمين على رسم سياسة الاعتقال الإداري صعّدوا خلال السنوات الماضية  من اجراءاتهم بشكل خطير واستهدفوا آلاف المواطنين، لكنهم عمدوا بشكل خاص على إعادة اعتقال نفس مجموعات الاشخاص، حتى أننا نجد اليوم في السجون عشرات الأسرى الاداريّين الذين أمضوا أكثر من عشر سنوات من دون تهمة عينية أو فرصة دفاع حقيقية. واللافت، إلى جانب  ذلك،  أن الأسرى يشيرون إلى أنّ هذه السياسة القمعية تفاقمت رغم بعض المحطات النضالية التي خاضوها وتمثلت بمقاطعة جزئية للمحاكم، وإرجاع وجبات الطعام في السجون، ووصولا إلى اضراب عام 2014, الذي خاضه، لمدة 62 يومًا، عدد من الأسرى، إضافة إلى سلسلة من الاضرابات الفردية التي خاضها بعضهم ساعة احتجوا على اعتقالهم الاداري  .

قد تكون بعض ملاحظات المهتمّين وتساؤلاتهم صحيحة ومبرَّرة، لكننا نقف اليوم عند أعتاب مرحلة جديدة، فخلاصة بيان المعتقلين الإداريين تعكس قناعتهم الموحّدة وقرارهم الصارم على دخول المعركة بإرادة حرّة وعزم ، وإسماع زئيرهم كالأسود.

فقد يكون رهانهم في الماضي على برق الوعود مغلوطًا ومعتمِدًا على تقييمات خاطئة، وايمانهم بما قالته العرب مرهونًا “فاذا كنت أسدًا فلا حاجة أن تزأر”، لكنهم دفعوا من سني أعمارهم أنفس الأثمان، وضحّوا بالغالي وتيقّنوا أن على الأسود، وهي في ساحات الوغى، أن تزأر أحيانًا كي تحيا بكرامة وبوطن.

ما يميّز هذه الخطوة، بخلاف كثيرات سبقت في تلك السنوات العجاف، هو كونها خطوة أجمعت عليها جميع الفصائل، وكونها سهلة التطبيق، فالقرار بمقاطعة المحاكم الاسرائيلية، على درجاتها، سيعتمد على الأسرى أنفسهم وعلى وحدتهم ومدى التزامهم وصمودهم .

بالمقابل، من الواضح أن الأسرى  بحاجة إلى دعم وتعاطف شعبيين وإلى فعّاليات إسنادية مؤسّساتية مدروسة تنمّي حالة من التضامن المؤثّر وتبني مناخات تساعد على خلق روح نضالية متجدّدة، هذا بالتوازي مع ضرورة العمل على استجلاب دعم المؤسسات الحقوقية الدولية وجهات عالمية أخرى، برلمانية وحكومية، كانت قد عبرّت في الماضي عن شجبها ومعارضتها لسياسة إسرائيل في الاعتقالات الإدراية، والتواصل كذلكمع المؤسّسات المعارِضة وبعض الشخصيّات الاعتبارية في داخل إسرائيل والتي أبدت في الماضي رفضها لطريقة ممارسة الجهات الأمنية الإسرائيلية سياسة الاعتقالات الجماعية ووصفتها بغير المبرَّرة وغير الضرورية.

الكامل من عُدّت هفواته

في هذه الأيام تحتجز أسرائيل حوالي 450 أسيرًا اداريًا فلسطينيًا. اعتقال معظمهم قد تكرّر لعدة مرات. منضمنهم سنجد قاصريْن وثلاث سيدات، من بينهن النائبة في المجلس التشريعي خالدة جرّار. كثيرون منهم هرموا وهم ينتظرون “خشخشة” مفاتيح الفرج  و”ساعة الشمس” الحقيقية.

ووفقًا لمتابعة “جمعية نادي الأسير الفلسطيني”،  فلقد أصدرت قوات الأمن الاسرائيلية في العام 2015 حوالي  1248 أمرا إداريًا (بين أوامر جديدة واوامر تمديد) بينما وصل عدد هذه الأوامر في العام 2016  إلى حوالي 1742  أمرًا، وفي العام 2017 إلى 1060 أمرًا؛ والأهمّ في هذا المشهد يبقى غياب القضاء بكل درجاته وعدم تصدّيه لهذه الظاهرة المنفلتة، خاصة المحكمة العليا الإسرائيلية التي أجازت بقراراتها العبثية، خلال عقود، للسلطات الأمنية الاسرائيلية تماديها غير المحدود.

جميع قضاة هذه المحكمة، على أجيالهم المتعاقبة، شاركوا فعليًا في ” الجهد الحربي”  وكانوا جنودًا مخلصين في معركة دولتهم ضد المواطنين الفلسطينيين. لقد تغاضوا عن قواعد العدل الأساسي وحقوق الانسان الطبيعية وفضّلوا العمل وفق انتماءاتهم القومية والأيديولوجية في مسألة لو أرادوا لاستطاعوا أن يغيّروا فيها كثيرًا، فجهاز المخابرات يعمل ككل جهاز يملك قوة كبيرة ويطمع بمدّها “نحو السماء” خاصة اذا لم يجابه بكوابح القضاء وبمنطق العدل.

ما زالت الخطوة في بداياتها وكل “الأطراف” تترقّب كيف سيسلك “أهل الفرح” وهل سيصمدون ويُنجحون عرسهم وهو عرس الوطن ؟ فإذا فعلوها سيتشكل ضغط كبير على جهاز القضاء وعلى أصحاب القرار في إسرائيل، لأننا نعرف أنّ كمية الاعتقالات الإدارية لا تبرّرها دواعٍ أمنية حقيقية، وفي حالات كثيرة تمارَس لهزم نفسيات الأسرى، لا سيّما من يحظى منهم بمكانة اجتماعية واعتبارية مميّزة، فيعاد اعتقالهم مرارًا ليتحوّلوا “وسائل للردع” و “لعيّنات”  عاجزة أمام مجتمعاتها أو مهزومة .

في اعتقادي واذا نجحت خطوتهم ولم ينجح السجان باختراقها فسيكون كثيرون من  هؤلاء الأسرى أول المستفيدين والمحررين .

يسأل البعض ما جدوى الخطوة والجواب في عبرة الماضي وفي ما عاناه مئات الأسرى عندما راهنوا، لسنوات طويلة، على عدل قضاء عاقر وضمائر نائمة لقضاة يرون أنفسهم حماة الخنادق وحرّاس أبراج أمن الدولة، لا أكثر ولا أقل.

سأراهن على قرار الأسرى الإداريين مع أنني عشت كشاهد على حالة الوهن التي عصفت وما زالت تعصف في أقفاص الحركة الأسيرة وصدورها، لكنني أحس أن “شيئًا ما” مختلفًا قد حصل، فلقد شاخت المهانة ووصلت حد الهرم !

أسرى اليوم هم أحفاد لمناضلين بنوا هرمًا منيعًا كاملًا متكاملًا، وخلقوا واقعًا جعل  العدو يعترف بإنجازاتهم وبعلوّ قاماتهم وتميّزها، فعسى ما بدأه الإداريـّون في هذا الشباط الفلسطيني اللبّاط أن يثبت ما قالته العرب من قبل وبأن  ” الكامل من تُعدّ هفواته”. ولقد عددنا هفواتكم فكفى.

 

 

Attachments area

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .