تساءل (ذو القُروح المزواج)، وهو، كالعادة، لا يحاورني:
– تُرَى لماذا يتعصَّب بعض العَرَب اتِّباعيًّا لموروثهم من كتابة الياء والألف المقصورة بصورةٍ فارسيَّةٍ واحدة، دون سائر العَرَب؟!
– وما أدراني! كأنَّك تنوي نقل حِوارنا من (نون النِّسوة) إلى (ألف الذُّكورة)!
– ماذا تعني؟
– كان حِوارنا عن النِّسويَّة العَرَبيَّة، فما علاقة ذلك باللُّغة والإملاء؟
– كُلُّ الثقافة العَرَبيَّة، في النهاية، لغةٌ وإملاء!
– سَلْ ما بدا لك، يا ذا القُروح!
– لقد أورثتْ تلك البلوَى الإملائيَّةُ العَرَبيَّةُ المعاصرةُ الكتابةَ والنطقَ معًا بلبلةً عجيبة.
– بلبلة؟ كيف؟ قَرِّحنا!
– تسمع مذيع أخبارٍ يقول: “الرئيس فلان يَنْعِي الأمير فلان“، بدل: يَنْعَى، وترى امرأة اسمها (مُنَى) تكتب اسمها: مني! لأنَّ حرفَين صارا يُكتبان برسمٍ واحد؛ فلم يَعُد يُفرَّق بينهما.
– هذا وقته؟! الناس تُباد في (غَزَّة)، ولا يجدون من العَرَب نقطة ماء، وأنت مشغولٌ بنقطتَي إملاء؟! ثمَّ هؤلاء جهلة، والخطأ منهم محتمَل لهذا السبب أو لغيره.
– أوَّلًا، لا ينفصل التشظِّي اللُّغوي والثقافي عن التشظِّي الوطني والقومي. وثانيًا، ما زعمتَ من خطأ في دائرة العوامِّ: غير صحيح. لقد بلغ هذا التخليط المتوارث إلى كتب التراث المحقَّقة، ومن كبار أعلام التحقيق، مثل (أحمد محمَّد شاكر، وعبدالسلام محمَّد هارون)!
– لا، هذه تستأهل جلسةً مطوَّلة. أتحدَّاك أن تُثبت هذا الاتهام على مشايخ التحقيق العَرَب، وبسبب الياء المِصْريَّة التي يُصِرُّون على كتابتها ألفًا مقصورة، كما تزعم! أتحدَّاك، ولقد سكتُّ عن ادعاءاتك طويلًا!
– دع عنك عبادة الأصنام! قلتُ لك: إذا كان “العَرَب ظاهرة صوتيَّة“، كما قال (عبدالله القصيمي)، فإنهم في الكتابة (ظاهرة إملائيَّة)!
– لا تلفَّ ولا تَدُرْ! أين البيِّنة؟
– إليك حديث البيِّنة. ستقرأ في كتاب “المفضَّليَّات“، (للمفضَّل الضَّبِّي)(1)، من قصيدة (الجميح الأسدي) بيته، وقد كَتبه شيخاك هكذا:
وأُمُّها خَيْرَةُ النِّساءِ عَلَي … ما خانَ مِنْها الدِّحاقُ والأتَمُ
– عَلَي؟!
– نعم، كتباها: “عَلَي”، بالياء المنقوطة؟! وهي “عَلَى”، بالألف المقصورة.
– طيِّب، هذا يُثبِت خلاف ما زعمتَ، وهو أنهما ينقطان ولا يُهملان!
– ينقطان ماذا؟ ينقطان المهمَل ويُهملان المنقوط؟!
– ليتك تنقِّطنا بسكوتك، يا ذا القُروح! تُقيم الدنيا ولا تُقعدها من أجل نقطتَين؟! أذكرتني بجيم جِدَّة!
– هي (جُدَّة) بالضم، كما قال (عبدالقدوس الأنصاري). وكذلك هي منذ أن سمَّاها العَرَب بهذا الاسم. لكن العَرَب المعاصرين بلغتهم وبأنفسهم يستهزئون!
– فلنَعُد إلى نقطتَيك!
– بل لنَعُد ، إذن، إلى عصر ما قبل الإعجام، أيَّام كانت تُكتَب العَرَبيَّة بغير نقط، ونستريح!
– كيف تفسِّر هذا، إذن؟
– يبدو أنَّ حِرص المحقِّقَين “الكبيرَين” على تلافي تلك الكتابة المِصْريَّة النمطيَّة، التي لا تُفَرِّق بين الألف والياء، قد أوقعهما في نَقْط الألف المقصورة أيضًا!
– وهل النصُّ سليمٌ في غير “المفضَّليَّات” بتحقيقهما؟
– نعم، النصُّ سليمٌ في المصادر الأخرى. (انظر مثلًا: “الشاعر الجاهليُّ الجميح بن الطَّـمَّاح الأسدي: أخباره وشِعره“، شرح وتحقيق: محمَّد علي دقَّة)(2). غير أنَّه لم يُشِر إلى ما في “المفضَّليَّات” من غلطٍ في الرسمٍ الإملائي.
– يبدو حِوارك في شأن النِّسويَّة أرحم من حِوارك في اللُّغة!
– العَرَب ظاهرةٌ إملائيَّةٌ هنا وهناك! إملاء الموروث، أو إملاء الآخَر، (الغربي) طبعًا!
– عليك من القُروح ما تستحق!
– وعليك! المهم، اعلم أنَّ المغرَّر بهم وبهنَّ في هذا التيَّار، الذي يدَّعي النِّسويَّة، هم فرعٌ من ظاهرةٍ إملائيَّةٍ كذلك، وهم لا يقلُّون خطورةً عن المغرَّر بهم وبهنَّ في التيَّارات المضادَّة. فكلا الفريقين من الشباب الزُّعْر والشابَّات…
– الزُّعْر؟ هي وصلت إلى الزُّعْر؟!
– الزُّعْر: من الفِراخ، التي لمَّا ينبت ريشها بعد. وفي بعض اللهجات المعاصرة يستعملون الكلمة بصيغة: الزُّعْران.
– ماذا عن الزُّعْر، أو الزُّعْران؟
– معظمهم جماعةٌ من مراهقي البلوغ والمراهقات- وأنا أذكُر لك هنا المذكَّر والمؤنَّث لكيلا تتهمني بالذُّكوريَّة- ومن أنصاف المثقَّفين وأنصاف المثقَّفات، ضحايا خطابٍ مضلِّلٍ من جهةٍ وخطابٍ متشدِّدٍ من جهة.
– ذو قُروحٍ يحدِّثنا عن التشدُّد!
– التشدُّد يتصاعد مع الزمن، ومن سُنن أتباع الأديان والأيديولوجيات ذلك التصاعد. فأنت تلحظ هذا بالمقارنة بين صدر الإسلام، مثلًا، والعصر الأُموي، وظهور الخوارج فيه وغُلاة الشيعة وخصومهما، ثم في العصر العباسي جاءك تيَّار الزُّهد والتصوُّف والإعراض عن الدنيا وزينتها. وتنامى ذلك مع الزمن، وصولًا إلى (داعش) وأخواتها في العصر الحديث، لا فرق في ذاك بين تطرُّفٍ فكريٍّ وتطرُّفٍ سُلوكي. وكذلك في المسيحيَّة، تنامى التشدُّد، منذ عهد (السيِّد المسيح)، بسماحته وحياته اليسيرة الطبيعية، إلى عهود الرهبنة، والكاثوليكيَّة، وحركات التطرُّف القرعاء عبر العصور التالية.
– لا تُخرجنا من الموضوع باستطراداتك الجاحظيَّة؟
– أنت الذي تُخرجنا بتساؤلاتك المعتزليَّة! قلتُ: إنَّ أولئك الزُّعْر هم ضحايا خطابٍ مضلِّلٍ من جهةٍ وخطابٍ متشدِّدٍ من جهة. يدفعانهما دفعًا إلى تبنِّي أقصى الاتجاه المضادِّ، تنفيسًا عن نفسٍ غضبيَّة، وتحدِّيًا لخطابٍ خصمٍ، يُلغي منطق العقل والتمييز. فالحقائق ضائعة بين تطرُّفين، كلاهما سيِّءٌ ومُغْرِضٌ ولئيم. وحينما يكون الحديث عن النِّسويَّة فإنَّما هي في كثيرٍ من شطحها ونطحها: التطرُّف المضادُّ للذُّكوريَّة. من حيث لا تُدرِك- أو هي تتعامَى كأيِّ أيديولوجيا- أنَّ سنن الله في الذُّكورة والأُنوثة ليست في بني الإنسان فقط، لتُجعل جريرتها على الرَّجُل أو المرأة، ويُرسَم لها سيناريو فيلمٍ (هنديٍّ) تاريخيٍّ، يُثبِت التآمر القديم على المرأة، وإنَّما هي فطرةٌ ظاهرةٌ في مخلوقات الله الحيَّة جميعًا، من حيوانٍ وطيرٍ ونبات. أم أنت قائل هنا: إنَّ تُراث مجتمع الدجاج، مثلًا، وعادات ذلك المجتمع وتقاليد أسلافه البالية- هي التي جعلت الدِّيك (الذُّكوري الفحل) يستولي على السُّلطة الاجتماعيَّة، وجعل الدجاجة تنسحب من ساحتها السياسيَّة، وتُسلم الحكم إلى الدِّيك؟! وأنَّ تَراجُعها ذاك هو ما جعلها تلتصق بالدِّيك حاميًا، وتقلِّص دورها في العهد الأبويِّ الديوكيِّ، إذ تربَّعت الديوكيَّة على العرش؟ وأنَّ ذلك هو ما أملى على الدِّيك أن يقترن بأكثر من دجاجة، وأن تكون له السيطرة الأُسَريَّة؟! وقِسْ على ذلك دور الجنسَين لدَى مخلوقات الله الأخرى، ومن ثَمَّ قارن بالسُّلوك الذُّكوريِّ الأَبويِّ في شؤون أُسَرها ومجتمعاتها. وذلك كالذئاب، التي تتولَّى ذُكورها مسؤوليَّة كسب الطعام لإناثها وصغارها، وكأنواع من القرود، تفعل مثل ذلك.(3) وعليه، فإنَّ تلك الأُحدوثة القديمة التي تُروَى عن التحوُّل من قداسة الأُنثى إلى قداسة الذَّكَر، ومن التاريخ الأُنثوي إلى التاريخ الذُّكوري، بالتحوُّل البَشري إلى المجتمع الزراعي، هي أُحدوثةٌ مُسَلِّية، لكنها تتناقض مع الحقائق الحيويَّة البيولوجيَّة التي هي الأساس، كما رأينا، في وضعيَّة الأُنثى والذَّكر، أكثر من أيِّ عوامل أخرى.
– يا حبيبي، يا أبا القُروح، قياسك باطل الأباطيل! كيف تقيس عالَم الإنسان على عالَم الحيوان؟! نعم هناك أشياء مشتركة بين العالَمين، لكن الإنسان العاقل يسعى إلى الترقِّي، وتجاوز بعض الفِطَر البدائيَّة. ولولا هذا لبقي الإنسان حيوانًا، كالقرد، والذئب، والدِّيك! أيُّ منطقٍ هذا؟
– في المساقات المقبلة سأُعلمك أيَّ منطقٍ هذا!
… … …صورة تعبيرية لمرؤ القيس – ذو القروح
“وافترقْنا،
غابةً تكتبها الأرضُ وترْويها الفصولُ
أيها الطِّفل الذي كنتُ، تَقَدَّمْ!
ما الذي يجمعنا الآنَ؟ وماذا سنقولُ؟”(4)
أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (1979)، بتحقيق وشرح: أحمد محمَّد شاكر وعبدالسلام محمَّد هارون، (القاهرة: دار المعارف)، 43/ 13.
(2) (“مجلَّة جامعة الملك سعود“، 1413هـ= 1993م، م5، الآداب (2)، ص ص469- 498)، ص489/ 13.
(3) يُنظَر مثلًا، موريس، ديزموند، (1984)، القِرد العاري: دراسة للتطوُّر العضوي والجنسي والاجتماعي للإنسان، ترجمة: ميشيل أزرق، مراجعة: محمَّد قجة، (اللاذقيَّة: دار الحِوار)، 22، 32- 33.
(4) أدونيس.