إزاء الهَلْهَلَة في الحُكم على الأشياء، والمزاجيَّة في نقد المجتمعات، لا بدَّ أن تتبادر مساءلة أولئك الذين لا يرون للمرأة العَرَبيَّة أيَّ شخصيَّة ولا هويَّة مختلفة، كما لنساء الشعوب، المحتفظات بشخصيَّاتهن القوميَّة والثقافيَّة. أفما يتسع المجال عقلًا وتصوُّرًا لوجودٍ مغايرٍ خارج محاكاة الآخَر؟ ذلك أنَّ التذمُّر الغالب إنَّما يدلُّ على أنَّ النموذج الغربيَّ هو المثل الأعلى، والغاية القصوَى للعصريَّة والحداثة. ثمَّ في نهاية المطاف والتحليق لا تقف إلَّا على سفسطة تُدعَى نقدًا اجتماعيًّا، لا ترى من الأمر إلَّا القِطَع القماشيَّة الفارقة بين المرأة الشَّرقيَّة والغَربيَّة، من حيث النوع والحجم واللون. وعليه فلا يمكن للمرأة- كما يرى أصحاب ذلك الخطاب، ومعظمهم من الرِّجال- أن تكون شيئًا مذكورًا ما لم تأت نسخةً مفصَّلةً وَفق “كتالوج” المرأة في أقاليم ما وراء البحار! أ فهؤلاء أنصار المرأة حقًّا؟ أم هم أنصار أنفسهم؛ إذ يَبدون مجرَّد أرباب أزياء نسويَّة، وبائعي أقمشة خاصَّة، وأصحاب مشاغل خياطة، تلبِّي متطلَّباتٍ أُغرموا بها؛ لأنها تجذبهم بسُلطة الغالب على المغلوب؟
الحقُّ أنَّ من يتتبَّع ذلك الخطاب النسوي يُلفيه منكودًا باللِّباس قبل كلِّ شيء وبعده، وبصرف النظر عمَّا وراءه من إنسان. ومن هنا فلا فُجاءة في أن تجدهم يمارسون العنصريَّة في تعاملهم، والتمييز في تقييمهم، والتطفيف في نظرتهم إلى المرأة، بناء على تحقُّق شرطهم الجوهريِّ لولائهم وبرائهم؛ فإنْ توافرت مقاييس تفصيلهم، فالمرأة لديهم راضيةٌ مرضيَّة، وإلَّا فهي سقيمة الثقافة، غير واعية، ولا مؤمنة بقضيَّتها/ قضيَّتهم!
وهكذا، فكما ابتُليت الثقافة العَرَبيَّة بالانتقائيَّات الفقهيَّة، والاجتزاءات النُّصوصيَّة، فإنَّ لأمثال هؤلاء فقهاؤهم المصطفين الأخيار أيضًا؛ ما أَفْتَوا به فهو الحقُّ المحض، وما عداه فهو من مزالق الزيغ والتضليل، وربما لا علاقة له بالعصر والنور والمستقبل، من قريب أو بعيد.
تُرى هل يبقى لدعاوَى الحُريَّة التي يتشدَّق بها أولئك أيُّ مصداقيَّة، وهم ينتقون ما يعجبهم؟ فيما ينتقمون ساخرين ممَّن يخالفهم النهج، وممَّن يفارقهم الرأي، ناعتينه بالتخلُّف، والانغلاق، والذُّكوريَّة، في مقابل ما يُضفُونه على ذواتهم العَليَّة من العصريَّة، والانفتاح، والمساواة، ورعاية الحقوق! وكأنَّما تلك هي ديمقراطية العُربان الاجتماعيَّة المزمنة، جاعلةً وكدها الإقصاء والإلغاء والعنف اللُّغويَّ ضِدَّ مخالفيها الرأي، في الوقت الذي لا تكفُّ فيه عيناها عن الشكوى، وكفكفة الدمع من ظلم المخالف، وغياب إيمانه بالحُريَّة؟ أفهذا هو مبلغ العقل، والعدل، والحُريَّة، وقبول التعدديَّة، والرأي الآخَر؟ إنَّما هؤلاء- بلا ريب- وجهٌ آخَر لعملتنا الثقافيَّة العتيقة، وما في الجعبة لا يَعْدُو تبنِّي الوجه المعاكس، لسببٍ أو لآخَر.
على أنْ ليس هذا بسوى عَرَضٍ لمَرَضٍ قديم، أعمق استشراءً. وما العنف اللُّغوي بسوى تمظهرٍ صوتيٍّ للعنف الدموي الوشيك:
يا سادتي!
بِخنْجَرِي هذا الذي تَرَوْنَهُ
طعنتُهُ في صَدرِهِ والرَّقَبَةْ
طعنتُهُ في عقلِهِ المنخُورِ مثل الخَشَبَةْ
طعنتُهُ باسمي أنا..
واسْمِ الملايينِ من الأغنامْ
يا سادتي!
أعرفُ أنَّ تُهْمَتي عِقابُها الإعدامْ..
لكنَّني..
قَتَلْتُ إذْ قَتَلْتُهُ
كُلَّ الصَّراصير التي تُنْشِدُ في الظَّلامْ
والمستريحينَ على أرصفةِ الأحلامْ
قَتَلْتُ إذْ قَتَلْتُهُ
كُلَّ الطُّفَيْليَّاتِ في حديقة الإسلامْ
كُلَّ الذين يطلُبُونَ الرِّزْقَ من دُكَّانَةِ الإسلامْ
قَتَلْتُ إذْ قَتَلْتُهُ..
يا سادتي الكرامْ
كُلَّ الذين منذُ ألفِ عامْ
يَزْنُونَ بالكَلامْ…
هكذا يقول شاعر المرأة الشعبي الهُمام (نزار قبَّاني)(1). وأمَّا ألاعيب الشعراء والنقَّاد المبرِّرة لمثل هذا العنف اللُّغوي- بما ينطوي عليه من تبريرٍ للقتل وتحريضٍ عليه- فلا تنطلي إلَّا على الثقلاء من أتباع الهوى. فلئن قيل إنَّ القتل هنا قتلٌ معنوي، لا حقيقي، فلا فرق! ولو سلَّمتَ بهذا، فأنَّى للجمهور، الذي يصفِّق عادةً لمثل هذا الشِّعر، أن يفقه “إيضاح” (القزويني) في الفرق بين الحقيقة والمجاز، أو نظريات (كلود ليفيشتراوس) في المعاني الرمزيَّة للكلمات؟! إنَّ النصَّ سيحمل إلى المتلقِّي المصفِّق- من شاعره المحبوب- رسالةً تسويغيَّةً للكُره، وتوصيةً مباشرةً بالقتل، أو قل تحفيزيَّةً عليه، متى واتت الفُرص.
وفي المقابل فإنَّ ثَمَّة مجتمعات بدائيَّة- تستوطن (الرَّقَّة) أو غيرها- لا مساحة ذهنيَّة لفضِّ الخصومات الفكريَّة لديها إلَّا بالتصفية الجسديَّة. وستنفِّذ حكمها في خصيمٍ خُلِق شَكْسًا للأعادي مِشْكَسًا، هو الأديب والمثقف، إنْ عاجلًا أو عاجلًا. والملصَق السياسيُّ التقليديُّ القديم في يديها هو: “الزندقة”، و”الكُفر”- منذ (عبدالله بن المقفَّع) إلى آخر المقفَّعين- في واجهةٍ أخرى لملصَقات حداثيَّة شبيهة، كـ”الإرهاب”، و”التآمر”، و”العمالة”، إلى نهاية هذا السرداب من الألاعيب اللفظيَّة لنَفْي المخالف، وإقصائه، وقصف عمره، سياسيًّا وثقافيًّا.
تلك مجتمعات لم تتعلَّم، مع الأسف!
لم تتعلَّم أنَّ لإدارة الخلافات آليَّات حضاريَّة، دون الرِّقاب، وأنَّ الأدغال القديمة، التي ما زالوا يعتزُّون بعقليَّاتها، قد تخطَّاها التاريخ. ولهذا فإن الأُمم المتحضِّرة التي ترقَّت عن أطوار الثارات المتداولة إلى إرساء القوانين العدليَّة وأنظمة المجتمعات المدنيَّة، قد تقف مدهوشة إزاء ما يجري في أدغال أفريقيا وآسيا من أكل الناس بعضهم بعضًا بسبب اختلافاتٍ لفظيَّة، أو خلافاتٍ في الرأي، كان يمكن أن يُتَوصَّل فيها إلى كلمةٍ سواء، لو كان العقل والعدل هما الفيصل في الخصومات. ذلك أنَّ تلك الأدغال ما برحت تراوح في ضلالها القديم، غير مستوعبة أنَّ أكثر الأفكار الجدليَّة حيويَّة في العالم هي تلك التي أُشعِلت جذوتها بالرفض والإقصاء، وأنَّ القمع يحوِّل الفكرة من وجهة نظرٍ يمكن أن تُجادَل، فتُردَّ أو تُقبَل، أو يُؤخَذَ منها ويُرَدَّ، إلى قضيَّةٍ شعبويَّةٍ معمِّرة، وإنْ كانت لا تستحق التعمير. أجل، ربما تقف المجتمعات المتمدِّنة مدهوشة، على المستوى الإنساني، إزاء ما يدور في أدغال العالم، غير أنَّها لا تجد سبيلًا إلى تلقين ضواريها الدرس، كي تختصر عليها المرور بالتجربة نفسها قبل الاهتداء إلى السِّراط المستقيم. فليس أحكم، إذن، ولا ألأم، من أن تدع تلك الأدغال في غيِّها تَعْمَه، مستغلِّةً في الآن نفسه، ما أمكن، من سفاهاتها وحماقاتها، في سبيل مصالحها الحيويَّة، وفي تصفية حساباتها هي الأخرى بالوكالة، وكأنَّ لسان كُفرها: إنَّك لا تهدي من أحببتَ، ولكنَّ الله يهدي من يشاء!
أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قصيدة “الاستجواب“، (1968)، ضمن “الأعمال السياسيَّة الكاملة“، (بيروت: منشورات نزار قباني)، 3: 134- 136.
أمَّا لقب شاعر المرأة، فلقبٌ لا يكرم المرأة، بل يهينها. لا نكران أنَّ (نزارًا) كان شاعرًا مرموقًا، لولا جناية التصفيق على تجربته الشِّعريَّة، وشهوة الجماهيريَّة على حِسِّه الثقافي.
(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)