(من “فَعْلَة” المتنبِّي إلى “كريمة فُلان”!)
بقلم: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيـْفي
ناقشْنا في المساقَين السابقَين القصيدة الأُولى التي رثى بها (أبو الطيِّب المتنبِّي) جَدَّته، والقصيدة الثانية في رثاء والدة (سيف الدَّولة). واليوم نناقش قصيدته الثالثة في رثاء أخت (سيف الدَّولة)، وهي ذات المطلع:
يا أُختَ خَيرِ أَخٍ يا بِنتَ خَيرِ أَبٍ
كِنايَةً بِهِما عَن أَشرَفِ النَّسَبِ
ومنها الأبيات:
أُجِلُّ قَدْرَكِ أَنْ تُسْمَي مُؤَبَّنَةً
ومَنْ يَصِفْكِ فَقَد سَمَّاكِ لِلعَرَبِ
لا يَملِكُ الطَّرِبُ المَحزونُ مَنطِقَهُ
ودَمْعَهُ وهُما في قَبْضَةِ الطَّرَبِ
غَدَرْتَ يا مَوْتُ كَمْ أَفنَيتَ مِنْ عَدَدٍ
بِمَنْ أَصَبْتَ وكَمْ أَسكَتَّ مِنْ لَجَبِ
وكَمْ صَحِبتَ أَخاها في مُنازَلَةٍ
وكَمْ سَأَلْتَ فَلَمْ يَبْخَلْ ولَمْ تَخِبِ
طَوَى الجَزيرَةَ حَتَّى جاءَني خَبَرٌ
فَزِعْتُ فيهِ بِآمالِـيْ إِلى الكَذِبِ
حَتَّى إِذا لَم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أَمَلًا
شَرِقْتُ بِالدَّمْعِ حَتَّى كادَ يَشْرَقُ بي
تَعَثَّرَتْ بِهِ في الأَفْواهِ أَلْسُنُها
والبُرْدُ في الطُّرْقِ والأَقْلامُ في الكُتُبِ
كَأَنَّ فَعْلَةَ لَمْ تَمْلَأْ مَواكِبُها
دِيارَ بَكْرٍ ولَمْ تَخْلَعْ ولَمْ تَهَبِ
و”فَعْلَة” هذه هي (خَوْلَة)، أخت (سيف الدَّولة). وكانت لها في نفس الشاعر مودَّة، بلغت حدَّ زعمهم أنَّه كان يُحبُّها. ومهما يكن من صِحَّة هذا، فإنَّ عبارة “فَعْلَة” تؤسِّس لنا ما أشرنا إليه في المقال الماضي ممَّا أصبح يُعرف اليوم في دعوات الزَّواج في مجتمعنا المحلِّي بـ”كريمة فلان”، تحاشيًا للتصريح باسم المرأة؛ فلقد بات اسم المرأة “عورة” أيضًا! على أن التعبير بـ”فَعْلَة” أفظع من التعبير بـ”كريمة”! ولا مسوِّغ لمحو اسم المرأة؛ لا من الوجهة الاجتماعيَّة ولا السياسيَّة، سِوَى (الحياء) المرَضِيِّ المتوارث من حضور المرأة، في أيِّ سياق، وبأيِّ صفة. غير أنَّ الشاعر قد أساء من حيث توخَّى الإحسان، أو قل: من حيث توخَّى توقِّي اللَّوم الاجتماعي؛ حتى أوشك بكلمته هذه يتحوَّل بقصيدته من رثاء (فَعْلَة) تلك إلى هجائها! إنَّه القلق المزري أمام المرأة، يفعل فعله، فإنْ خرج شيطانه من الباب وَلَجَ من الشبَّاك؛ كأنه لا مفرَّ منه- في مجتمع فحوليٍّ معتَّق- إلَّا إليه.
ماذا عن “فَعْلَة” أبي الطيِّب؟
لقد كان (أبو الطيِّب) يراعي أنَّه لم يكن لدَى (أبي المِسْك) في (مِصْر)، لتعبق روائح الحُريَّة نِسبيًّا، طِيبًا ومِسكًا، بل كان لدَى (سَيف الدَّولة)، في محيطٍ من الأعراب! وبالرغم من أن “فَعْلَة” قد حجَّبها شاعرنا في القصيدة، فإنَّ ذلك لم يمنعه من التغزَّل الحِسِّي بها:
يَعْلَمْنَ حِيْنَ تُحَيَّا حُسْنَ مَبْسِمِها
ولَيسَ يَعْلَمُ إِلَّا اللهُ بِالشَّنَبِ
و(الشَّنَب) هنا لا علاقة لها بمعنى: شَعر الشارب، بل يعني: جمال ثغرها وعذوبة ريقه. وإلَّا لو كانت “فَعْلَة” ذات شَنَب بالمعنى الأوَّل لما كان ما كان، بل لما كانت “فَعْلَةً” أصلًا!
ومن طرائف (أبي الطيِّب) أنَّه قد يجمع بين العبقريَّة والحُمق في نَصٍّ واحد! فأوَّلًا، ما دمتَ، يا شاعرنا، قد صرَّحت باسم أخيها، وأسهبتَ في الثناء عليه، فإنَّ كِتمانك اسم أُخته لا يُقدِّم ولا يؤخِّر. بل لقد اعترفت أنت بذلك، بقولك: “ومَنْ يَصِفْكِ فَقَد سَمَّاكِ لِلعَرَبِ”! فأين ستذهب من (العَرَب)، بعد أن كنَّيتَ تكنيةً أفضحَ من التصريح؟! وثانيًا، إنَّ تكنيتك عن تلك الأميرة بلقب “فَعْلَة”، فيه فِعلٌ مسيءٌ للأميرة ولأخيها معًا. ولا يَبعُد أن يُصبِح قولك نبزًا للأمير نفسه؛ فإذا الناس يكنُّونه بـ(أخي فَعْلَة): جاء (أخو فَعْلَة)، ذهب (أخو فَعْلَة)، بدل لقبه (سيف الدَّولة)! وهذا محتملٌ، من شانئيه، على الأقل. ثمَّ إنَّك تَعلَم أنَّ التكنية لدَى العَرَب لها إيحاءاتها، وهي بهذه المادَّة اللغوية لا تكون إلَّا فيما يُسترذَل ذِكره؛ وتَعلَم تكنية العَرَب بـ(ابن الفاعلة)، مثلًا. ولعلَّك تعلم أيضًا أنَّ (الأخطل التغلبي)(1) قد عَرَّض بقومٍ ساخِرًا، فقال:
إِنَّ بَني زَيْدٍ مَليحُو الشَّكْـلِ
كَمْ فيهِمِ مِن (فَعْلَةٍ) و(فَعْلِ)!
ثمَّ قِلْ لي بربِّك، أهذا مقام التغزُّل بفَعْلَتك، كائنةً من كانت، وأنت ترثيها، وتتظاهر بالحياء حتى من الإشارة إلى اسمها؟! وأيُّ شاعرٍ يتغزَّل بحُسْن مَبسِم امرأةٍ (فَعْلَةٍ) ميِّتةٍ وبأسنانها وريقها؟! لقد كان (دُرَيْد بن الصمَّة) أَقَلَّ جفاءً منك، وأكثر حكمة، لمَّا استهلَّ قصيدة رثاء بالغزل. وكان كذلك (تميم بن أُبيِّ بن مُقْبِل العجلاني)، لمَّا ختمَ قصيدته في رثاء الخليفة الثالث (عثمان بن عفَّان) بالغَزَل، فعُدَّ ذلك جفاءً أعرابيًّا منه، لم يُسبَق إلى مثله ولم يُلحَق.(2)
أمَّا بيتك، يا (أبا الطَّيِّب):
وإِنْ تَكُنْ خُلِقَتْ أُنثَى لَقَد خُلِقَتْ
كَريمَةً غَيْرَ أُنْثَى العَقْلِ والحَسَبِ
فتذكيرٌ بتقنية الاستثناء، التي توقَّفنا عندها في المقال الماضي. فالسيِّدة المرثيَّة هنا، هي مثل (أُمِّ سيف الدَّولة) تمامًا، ليست بأُنثى كالنِّساء، وإنْ كان ظاهرها يوهم بأنها امرأة! ولكن- سبحان الله- “خُلِقَتْ أُنْثَى”! ولله في خلقه شؤون! تخيَّلوا أنَّ “فَعْلَة” المتنبِّي قد خُلِقَتْ أُنْثَى، ومع ذلك- ويا للمفارقة- لَقَد خُلِقَت “غَير أُنْثَى العَقلِ والحَسَبِ”! ذلك لأنَّ العقل ذُكوريٌّ، أساسًا، حسب فلسفة (أبي الطيِّب)، التي توسَّع فيها من بَعده تلميذه النجيب “فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة”: (أبو العلاء المعرِّي) توسُّعًا فاضحًا، في قصيدة الوَأْد، التي سبق أن أشرنا إلى أنها البرهان على أن عقليَّة وَأْدِ المرأة لم تنته بانتهاء العصر الجاهلي، بل استمرَّت- وإنْ نظريًّا وشِعريًّا- خلال العصور الإسلاميَّة، كما يشهد بذلك الشِّعر العَرَبي.
وفي المساق التالي نواصل تفصيل ذلك.(3)