د. منعم حداد
يرى الباحثون أن كلمة تراث جاءت من “ورث” التي تعني: حصول المتأخّر على نصيب مادّيّ أو معنويّ ممّن سبقه: من والدٍ أو قريبٍ أو مُوصٍ أو نحو ذلك، وأجمع اللغويون على أن التراث هو ما يخلفه الرجل لورثته(عبد السلام هارون: التراث العربي، القاهرة 1978،ص.3-5).
والتراث الشعبي هو كل ما يتّصلُ بالتنظيمات والممارسات الشعبية غير المكتوبة وغير المقنّنة، والتي لا تستمدّ خاصيّة الجبر والالتزام من قوة القانون والدستور الرسمي للدولة أو السلطة السياسية وأجهزتها التنفيذية المباشرة بقدرِ ما تستمدُّها مباشرة من خاصّية الجبر والإلزام الاجتماعي غير المباشر، سواء ما يتّصل منها بالعادات والأعراف والتقاليد والمعتقدات المتوارثة، أو ما قد تفرضه الظروف والتحوّلات المتغيّرة، من نماذج جديدة لمظاهر السلوك الشعبي بمختلف أشكاله(من كتاب حمود العودي: التراث الشعبي وعلاقته بالتنمية…)
ويعني مصطلح فولكلور “كلّ الإبداع الشعبي الذي ينتقل من قِبَل المجتمع شفويّاً ومن جيل إلى جيل، وكذلك العلم الذي يُعنى بجمع هذه الموادّ وتصنيفها وبحثها وتحليلها…”. أما الشروط التي يجب توفّرها في أي مادة كانت ليمكن اعتبارها تراثاً شعبياً أو فولكلوراً فهي:
• الانتقال والانتشار شفوياً
• الانتقال خلال جيلين (أو ثلاثة)
• اعتراف المجتمع بغالبيته بالمادة (דב נוי: אנציקלופדיה למדעי החברה, כרך ד: פולקלור)
ويكون التراث الشعبي أو الفولكلور إما مادياً ويشمل كل ما يمكن رؤيته بالعين (اثنولوجيا)، أو فكرياً وهو كل ما يتصل بالعادات والتقاليد والممارسات والأعراف (أنتروبولوجيا ثقافية)، أو كل ما يعبر عنه بالكلمة أو اللحن (فولكلور شفهيّ).
ويرث عادة الأبناء عن الآباء (الجيل الجديد عن الجيل القديم) تراثه كله الذي ينتقل إليه إما بالانتقال الطبيعي التدريجي والمعايشة وليس بناء على عمل ممنهج ومبرمج، ذلك لأن التراث في الحقيقة أسلوب حياة ووسائل معيشة، وقد يتعرّض هذا التراث الموروث لتغييرات وتحولات تفرضها طبيعة الحياة (العصرية) وتطوّرها، فينسى جزء كبير منه ويستبدل بما هو حديث وعصري، وقد يبقى هذا الحديث والجديد ويصبح تراثاً، وقد ينسى ويختفي في غياهب النسيان تاركاً المجال لما هو أحدث منه وأوفر ملائمة!
وليس أجمل ولا أحلى ولا أغلى على المرء من أن يحتفظ بشيء من ماضيه المتمثل بالتراث المادي، كتحفة أو حلية أو ما شابه ذلك، لتذكّره بما مضى من عهود، خاصة إذا كان الماضي يفضل الحاضر، وإذا كان المرء يعيش بعيداً عن وطنه، مهجّراً قسرياً، أو لاضطراره العيش بعيداً عن مسقط رأسه، بحثاً عن أسباب المعيشة ألأفضل، أو عن الأمن والطمأنينة.
* * *
وشهد العصر الحديث ازدياد وتيرة السياحة والأسفار والتواصل بين شتى بقاع الأرض ودول العالم لأسباب عدة، منها توفّر المواصلات والاتصالات العصرية السريعة، وتحوّل العالم – وكما يقولون- إلى ما يشبه القرية الواحدة، وتحسّن الأوضاع الاقتصادية والمالية والتجارية لدى كثيرين.
وأدى ازدهار السياحة والسفر إلى ازدهار تجارة التراث كما يدّعي البعض، والتي تعتمد على تسويق أشياء من التراث المادّيّ، إن كانت أصلية أو نسخاً عنها…وذلك لشغف السياح بهذه التحف ولرغبة المحليين وعلى الأخصّ العاملين في مجال السياحة والسفر اجتذاب السياح واستقطابهم وتسويق أكثر ما يمكن من مصنوعات محلية لهم.
ويرى السائح الزائر لبعض البلدان أشخاصاً يرتدون الأزياء التراثية الشعبية القديمة لشعوبهم، فيرى الزائر لإيطاليا مثلاً أناساً يخطرون بين أنقاض الكوليسيوم في روما في زي جنود روما القديمة، متمنطقين بسيوف ومدججين بأسلحة قديمة، أو بنسخ بلاستيكية عنها.
ويرى الزائر مصر مثلاً البعض يخطر أمامه في زي الفراعنة، أو الأردنيين يختالون بملابسهم التراثية الشعبية ويقدّمون “القهوة السادة” للسياح تحت ظلال آثار البتراء الخالدة، ومثل هؤلاء كثيرون آخرون.
ومن الطبيعي أن يحتفظ المهاجرون والمغتربون بتحف وآثار وتماثيل مصغرة لبعض ما في بلادهم من باب الحنين إلى الوطن ولوعة الغربة، في محاولة لإطفاء لهيب نار الشوق إلى الوطن والتخفيف من المعاناة في البلاد الغريبة التي حملهم حظّهم – أو ظروف سيّئة سيطرت على أوطانهم – على الهجرة والاغتراب، وكل ذلك مما يعتبر تراثاً، مادياً وليس فكرياً ولا عقائدياً ولا أدباً شعبياً ومروياً.
أما التراث الفكري، “رسمياً” كان أو “شعبياً”، وهو في رأي الباحثين التراث الحقيقي فلا يباع ولا يشترى، لأنّه نظام عقائد ومعتقدات وطرق حياة وأساليب معيشة، يرثها الأبناء عن الآباء، فيأخذون منها ما يناسب حاضرهم، وينسون – حتى دون أن يفكروا في ذلك – ما لا يناسبهم..
(المقال بلطف عن “موقع اهلا” وليس من الكاتب)