كان يمكن أن تكون الإجابة على هذا التساؤل بالإيجاب وهذا التخوّف بالاطمئنان ودون تردّد، لو أن إسرائيل كانت قبل القانون مختلفة عمّا هي كائنة خلال تشريعه وما ستكون عليه بعد المصادقة عليه. ربّما يعتقد البعض أن في هذا الطرح وبما أنا قائله تسطيح للموضوع. ربّما (!)
التساؤل الذي طرحه بعض “المثقّفين” الإسرائيليّين في عجالاتهم الإذاعيّة، كان: “هل يجب قول ما هو مفهوم من تلقاء نفسه أم يجب عدم قول ما هو مفهوم من تلقاء نفسه؟!”. إذا كان لدينا الاستعداد أن نسمع غير أنفسنا وألا نضيع فقط في ضجيج ما نقول دون الالتفات الجدّي لما يقول الآخرون، ففي قول هؤلاء أكثر من قول.
وحتّى لا يُساء فهمي مسبقا أقول: إنه لا نقاش حول عنصريّة هذا القانون ولكنه ما هو إلا “سلّة” تجميع لقوانين عنصريّة سابقة قائمة سارية بدءً بقانون الحاضر غائب النكبويّ مرورا بقانون العودة وانتهاء بقانون كامينتس والعشرات من أشكالها. ولكن خطرا لا يمكن المرور عليه “مرور الكرام” كامن فيما يُطرح من “ردّات” فعل تترك لدى المتلقّي انطباعا وكأن إسرائيل “دولتنا” كانت قبل القانون فعلا الواحة الغنّاء وهذا القانون جاء ليكدّر صفاءها، كانت مياهها بلّوريّة صافية فانقلبت سوداء آسنة.
الخطاب الأساس ليس في تبيان سوء هذا القانون، وإنما في تبيان تجميعه للسوء القائم أصلا وما القانون إلّا رفع مرتبة هذا السوء بواسطته في أروقة المؤسّسة الإسرائيليّة (قانون أساس مقابل قانون عاديّ)، ولذا فالخطاب الذي يتمّ تداوله أو يُستشفّ منه وكأن التشريع غيّر أو سيغيّر حالا أفضل إلى حال أسوء، يخطىء الهدف ويخبىء في طيّاته من حيث يدري صاحبة أو لا يدري، “إشادة” ضمنيّة وأكثر بالمؤسّسة الإسرائيليّة القائمة. ومن ناحية أخرى لا تقل أهميّة، فالخطاب يجب أن يشمل التحدّي الذي يفرضه هذا القانون وهو:
هل ستتغيّر أطروحاتنا وأدواتنا النضاليّة بعد القانون عمّا كانت عليه قبله إذا كان فعلا يستأهل كل ردود الفعل هذه وفعلا هو يغيّر الحال إلى الأسوء؟! أم سنبقى على ما نحن عليه أدواتيّا سياسيّا وفكريّا وتمّر العاصفة وتهدأ النفوس ونعود ل-“محيّك منديلُهْ”؟!
قبل أن أغوص أكثر فيما أنا ناوٍ قوله، لعلّ في استعراض نصوص القانون إثبات وبيّنة على ما سقت أعلاه، باقتضاب، من تساؤلات وتوصيف حال ونتائج مترتّبة ومتوخّاة.
البند الأول-1 في القانون وتحت عنوان “المبادئ الأساسيّة” يحدّد؛ “أن أرض إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي وفيها قامت دولته، وهي الدولة القوميّة له وفي هذه الدولة يمارس حقوقه الثقافيّة والدينيّة والتاريخيّة لتقرير المصير، وهذا الحق فيها حصريّ للشعب اليهودي.”
ما الجديد في ذلك، طرحا وممارسة؟!
الشيء الوحيد الذي يمكن أن يُطرح في هذا السياق وهي فرصة؛ لعلّ أولئك العرب الذين يحاولون طرح الصراع كصراع دينيّ لاعبين لأيادي نتانياهو وما يمثّل (خطاب بار إيلان 2009)، يرعوون ويفيقون ليضعوا الصراع في سياقه التاريخيّ الوطنيّ، فنحن أهل هذه البلاد تاريخيّا بكنعانيّتنا وقبل أن “ينوجد” فيها اليهود أو “يمنحها الله لهم” وبغض النظر إن كان يهود اليوم أبناء أولئك الذين “منحها الله لهم ثمّ شرّدهم وثمّ أعادهم”، أو ليسوا همُ ولا همْ من صُلبهم، وقبل أن نكون مسلمين!
البند الثاني-2 يحدّد رموز الدولة؛ اسمها وشكل علمها وشعارها ونشيدها الوطنيّ. فأين الجديد ودون الإيغال أكثر ف- “خلّيها مستورة”؟!
البند الثالث-3 يحدّد أن القدس الكاملة والموحّدة عاصمة إسرائيل. والبَرَكِة …! شو جاب من بيت أهلُهْ!؟
البند الرّابع-4 يحدّد العبرية لغة الدولة ويقرّر: “اللغة العربيّة لها مكانة خاصّة في الدولة؛ تنظيم استعمال اللغة العربيّة في المؤسّسات الرسميّة أو في التوجّه إليها يكون بموجب القانون. لا يمس المذكور في هذا البند بالمكانة الممنوحة فعليّا للّغة العربيّة.”
لا جديد! فما هي المكانة الممنوحة فعليّا للغّة العربيّة؟!
اللغة العربيّة في إسرائيل معترف بها كلغة ذات مركز رسمي انطلاقا من “قول الملك بمجلسه” الانتدابيّ من العام 1939 والذي يحدّد في بنده رقم 82 الآتي:
“كل الأنظمة، الإعلانات الرسميّة والنماذج الرسميّة للحكومة وكل الإشعارات الرسميّة للمجالس المحليّة والبلديات في النطاقات التي تُحدّد حسب أمر من الحكومة تنشر بالإنجليزيّة والعبريّة والعربيّة. وارتباطا بكل الأنظمة التي تقرّها الحكومة (التأكيد من عندي) مسموح استعمال اللغات الثلاث في مكاتب الحكومة والمحاكم.”
عام 1948م أقر مجلس الدولة المؤقّت (الكنيست لاحقا): أمْرَ نُظُم الحكم والقضاء ت.ش.ح (رقم السنة العبريّة) 1948م وفي البند 11 حدّد: “القانون الذي كان قائما في أرض إسرائيل (هكذا سميّت فلسطين الانتدابيّة بالعبريّة) يوم الخامس من أيار ت.ش.ح يستمر سريانه… مع الأخذ بالاعتبار التغييرات النابعة من قيام الدولة ومؤسّساتها”.
عام 2002م وقبولا لالتماس جمعيّة عدالة (المركز القانوني لحقوق الأقليّة العربيّة في إسرائيل)، قرّرت “محكمة العدل العليا” على لسان رئيسها أهارون براك حينها، الآتي: “… لكل إنسان الحق في الحفاظ على لغته، واللغة العربيّة هي صاحبة مركز خاص في إسرائيل (التأكيد من عندي والسؤال لماذا لم يستعمل مصطلح لغة رسميّة؟!) … العربيّة هي لغة أقلية كبيرة في إسرائيل والتي تعيش فيها منذ القدم. هذه لغة مرتبطة بميّزات ثقافيّة وتاريخيّة ودينيّة لمجموعة الأقلية العربيّة في إسرائيل…” (ملف عليا رقم 4112\99).
فما الجديد في القانون الجديد على ضوء ذلك؟!
البندان 5 و6 يتحدّثان عن حق يهود الشتات وعلاقة الدولة بهم، وهكذا بالنسبة للاستيطان اليهودي البند 7 (في إسرائيل التي قامت 1948م). والبند 8 يتحدّث عن التقويم العبري، وال-9 عن يوم الاستقلال ويوم الذكرى كعيد وذكرى رسميّين، وال-10 عن أيام العطل لليهود، ولغير اليهود الحق في أيام عطلة في أعيادهم.
هذا هو القانون بأكمله، فهل هو أكثر من “قانون تصريحي” يجمع ما هو قائم فعليّا وميدانيّا ومنذ ال-48 من قوانين عنصريّة تُنفّذ صبح مساء في أروقة المحاكم ضدّ الأقليّة العربيّة الفلسطينيّة في البلاد، ناهيك عن القدس الموحّدة؟!
ربّ سائلٍ؛ وما دام القانون هو كذلك فما حاجة المؤسّسة الإسرائيليّة له؟!
الإجابة بسيطة وتصبّ في سلسلة وسلّة القوانين العديدة الأخرى التي تُشرّع مؤخرا وبعد أن غلب التوجّه اليميني وكذلك الدينيّ المتطرّفين على اليهود أناسا وليس فقط ساسة وقيادات، وهذه إحدى السّمات لمثل هكذا نظام؛ اتخاذ خطوات وسنّ قوانين “شعبويّة” ضد الأغيار كسبا لهؤلاء سندا الكتوراليّا، ألم تكف مقولة نتانياهو “العرب يتهافتون إلى صناديق الاقتراع” كي تُخرج هؤلاء كالقطيع، وفي التاريخ شواهد لا تُعدّ ولا تُحصى.
أهارون براك في قراره أعلاه يضيف:
“هذه لغة مواطنين، رغم النزاع العربي الإسرائيلي يطلبون أن يعيشوا في إسرائيل كمواطنين مخلصين متساوي الحقوق، ومن خلال احترام لسانهم وثقافتهم. الرغبة في تعايش باحترام بين أحفاد أبينا إبراهيم، من خلال التسامح المتبادل والمساواة، تتطلّب اعترافا في اللغة العربيّة على اللافتات البلديّة – في البلدات التي فيها أقليّة عربيّة تُذكر… بين %6 إلى %19 من السكان.”
ألم نهلّل ونبارك حينها هذا الإنجاز دون أن نلتفت إلى كلمات القاضي باراك وأبعادها عن ال-“المركز الخاص” للغة العربيّة ولماذا لم يستعمل باراك مصطلح “لغة رسميّة”؟! وهل يكفي بعد هذا “المجمّع” ومهما اختلفت تسميته أن تستمر المؤسّسة الإسرائيليّة بالاعتقاد أننا وبكلمات باراك أعلاه: “مواطنون نطلب ورغم النزاع العربي الإسرائيلي أن نعيش في إسرائيل كمواطنين مخلصين متساوي الحقوق ومن خلال احترام لساننا وثقافتنا”؟!
البروفيسور مردخاي كيدار رئيس القسم العربي في جامعة بار إيلان، يقول للإذاعة الإسرائيليّة: “إذا أجريتم استفتاء بين العرب والدروز لتسألوهم إذا كان أحدهم سيترك الدولة على ضوء هذا القانون ستجدون النتائج تساوي الصفر… فهذا القانون كما القوانين قبله حبر على ورق”. قالها بالعربيّة ليقول لمستمعيه اليهود أن لا جديد ميدانيّ في هذا القانون.
وعلى ضوء ذلك، ألا يستأهل منّا، قول بعض “المثقفين” اليهود آنف الذكر عن “قول أو عدم قول المفهوم تلقائيّا” وقول كيدار أعلاه وحتّى بمعزل عن ذلك، وقفة هادئة نسأل فيها أنفسنا: ألم يحن الوقت لنؤسّس لمنظومة علاقة وأدوات لإدارة هذه المنظومة مع المؤسّسة الإسرائيليّة مختلفة عمّا كانت قبل القانون وبغض النظر عن كونه أو عدم كونه: قولا أو عدم قول ما قائم فعلا؟!
المبادر للقانون؛ عضو الكنيست آفي ديختر رئيس لجنة الخارجيّة والأمن في الكنيست ونائب رئيس جهاز الشاباك سابقا، يصرّح: “لقد وضع هذا القانون النهاية لطرح دولة المواطنين”. ألم يحن مثلا الوقت وعلى ضوء ما يمثّله مثل هكذا قانون، وإسقاطاته طبقا لما يُطرح، لطرح الأقليّة القوميّة، أو الدولة الواحدة والعاصمة المشتركة، أو الدولتين المنفصلتين كيانًا وعاصمةً والمرتبطين مرافقا، ولا أقصد لا الفيدراليّة ولا الكونفدراليّة!
ألا تستأهل سلّة التجميع هذه والمسمّاة قانون أساس، مؤتمرا عربيّا وطنيّا شاملا ليس خطابيّا، للتداول؟! فالدعوة لمزيد من شراكة العرب الانتخابيّة ليست دواء وردّا و-“كفى المؤمنين شرّ القتال”، الدواء المطلوب يجب أن يكون أمرّ كثيرا من ذلك.
لست اليوم في موقع السياسيّ القائد ومن هذا المنطلق لا أنوي “الوعظ” وما طرحت أعلاه مجرّد أفكار، ولكن ومن منطلق “ما حكّ جلدك إلا ظفرك” خصوصا وقد قُلّمت أظافر الأقربين هذا إن بقيت أظافر، وحتى لا ينتهي الأمر عن حدّ الضجيج أو تضيع البوصلة وسط الضجيج، أرى أنه حان الوقت لإعادة النظر سياسيّا وفكريّا في المنظومة والأدوات، وهذه هي مهمّة القيادات التاريخيّة لا الشعبويّة.
سعيد نفّاع
أواسط تموز 2018