الوقفة الأولى: فاتحة.
دعونا بداية وقبل الغوص في وحل مفارق ركام بيوتنا، وهي لا شكّ موحلة هذه السنة ليس فقط بسبب وابل الأمطار، وهذا خير، وإنما بفعل وابل الهدم، وهذا شرّ. دعونا نحاول أن ندرك وبالتالي نذوّت أن القضايا الحياتيّة التي تواجهنا كأقليّة عربيّة في بلادنا من وجهة نظر المؤسسة، هي تلك التي لها أبعاد “وطنيّة” على المؤسسة وتلك التي لا أبعاد لها كهذه، ففي الأولى يحتاج الأمر منّا أن نتصدّى بوسائل عمل غير تقليديّة، بينما في الأخرى يمكن أن نكتفي بالتقليدي من الوسائل وبالأدوات المتوفّرة وفي مقدّمتها المجالس البلديّة.
التخطيط والبناء في بلداتنا من القضايا التي تراها المؤسسة ذات أبعاد “وطنيّة”، ذات الاسقاطات على الحقّ اليهوديّ، وحتى لا يتحسّس البعض فالصهيوني، على كامل أرض إسرائيل الممنوحة لهم بصك إلهيّ، وهذا يتعدّى الملكيّة الخاصّة (الطابو) فهذه لا تقف أمام وفي وجه هذا “الحقّ الإلهي”، وكهذا يجب أن تبقى هذه الأراضي احتياطيّا للمصادرات ل-“الصالح العام” حين يؤون الأوان، والصالح العام يختزل من ذلك الحقّ وفي هذه الدولة التي هي تجسيد لهذا الحق، فهو مطّاط كعلكة “البزّوكا” هل تتذكروها ؟!
الوقفة الثانيّة: ما بين التقليدي من الوسائل وغير التقليدي.
كُتب الكثير وقيل الأكثر في كل ما يتعلّق بقضايا التخطيط والبناء والهدم في بلداتنا، وربّ سائل: ما الذي يمكن أن يجدده المرء في الموضوع؟
المظاهرة الكبرى في قلنسوة أمر جيّد والمؤتمر المنوي عقده جيّد، وعمل لجنة المتابعة ولجنة الرؤساء واللجان الشعبيّة للدفاع عن الأرض والمسكن جيّد، ولكن لا جديد فيه، فهو نسخة طبق الأصل عمّا اعتدنا أن نفعله على مدار السنوات دون أن نستطيع أن نوقف الهدم. وحتى لا يحسب أحد أني نسيت أعضاء الكنيست، فها أنا أشهد كمن كنت منهم فترة ليست بقصيرة، وتابعت وأتابع نشاطهم: أن أكثر الكثير الذي يُقال في حقّهم في هذا السياق هو ظلم، فأكثر الكثير من مجهودهم في أروقة الكنيست ينصبّ في هذا المجال.
ولكن الأمَرّ من ذلك، وجيّد أن نذكر ذلك، أننا بتنا نردّد أو على الأصح نجترّ من حيث يدري بعضنا، ومن حيث لا يدري البعض الآخر، المقولات التي سجّلاها على اسميهما “ماركة مسجّلة” (طيّبا الذكر والعمل) فؤاد بن إليعزر (قتّال الأسرى المصريين في ال-56 وزير الدفاع) وجدعون عزرا (نائب رئيس الشاباك) ولسخرية الأقدار، سجلاها على طاولات الولائم الدسمة في قرانا: “ماذا يفعل لكم أعضاء الكنيست العرب؟ لا يفعلون لكم شيئا ويتلهون بالسياسة والقضيّة الفلسطينيّة!”، والله ستر ولم يتهماهم بأنهم وراء هدم البيوت كذلك.
ومع هذا، كل ما فعل هؤلاء وفعلنا وراءهم هو فعل تقليديّ، أثبت الهدم في قلنسوة على الأقل (وقبل أن أنهي وقفاتي لحقتها أم الحيران)، أن هذا الفعل الاحتجاجي “لا قطع شريانا ولا سيّل دما ولا حتى ماءً”. ولذا لم يتبقّ لنا إلا أن نستل السلاح غير التقليديّ، أن “نحمي بيوتنا التي بنينا، من الهدم، وإن لم نستطع وبغض النظر عن السبب، فعلينا أن نعيد بناءها إن فاتنا أن نحميها”، وهذا غير التقليديّ المطلوب !
الوقفة الثالثة: مع واقعيّة الأمر.
غير التقليديّ هذا يتطلّب استعدادا شعبيّا وتعبئة شعبيّة، أمّا الاستعداد فلا أظنني أنه غائب، وإن كان كذلك فأعتقد أننا نستأهل ما يجري لنا، وما ينقص هذا الاستعداد هو التعبئة، وهذه على القيادة القادرة، وحتى تكون قادرة يجب أن تتحلى بالإقدام.
أكيد سيذهب البعض إلى أن هذا كلاما رومانسيّ، يمحوه الواقع الموضوعيّ كما كلام الليل تمحوه الأصبًحُ. وما دام الحَكُم في هذا هو الواقع، فلنطرح الأمور على “بساط أحمدي” دون حرج وبوضوح: هنالك قطاعات في شعبنا حوّلت غير التقليديّ هذا إلى تقليديّ.
في العام 1971م أقدمت المؤسسة على هدم بيت لمواطن من بيت جن عامل ميناء فقير يعيل عدة أنفار صغار، أقامه على أطراف البلد وقريبا من مدخلها، وقامت بفعلتها في ساعات ما قبل طلوع النهار، وخرجت القافلة ولكن “ذنبها علق” ولولا أن الله ستر لكان قُطّع تقطيعا ولكنه خرج “مْدَرْدَك” حتى الثمالة.
في الغداة كانت تتشابك كل الأيادي من كل الحارات ومن كل العائلات، الغالبيّة تبني والأقليّة تحرس الشارع الرئيسي معيدة سيارات الشرطة على أعقابها وقد تهشمت تهشيما. وإن كان صاحب الدار وصل في البناء إلى ما قبل السطح فقد صُبّ كذلك السطح. حاولت المؤسسة الاقدام على فعلتها لبيوت أخرى مرّات عدة، غير أن الجدار البشري المتأهب كان يسبق، لتضع القوات المتأهبة على أطراف كرميئيل، الذيول بين الأرجل قافلة من حيث أتت.
وهذا ما كان يحدث ردّا على كل اعتداء، ولعلّ معركة أرض الزابود عام 1987م كانت القمّة في الردّ الغير تقليدي المطلوب في وجه هذه السياسة ومهما غلا الثمن وكان الثمن غاليا، دفعه أهل البلد اعتقالا وملفات وفصل من العمل و… و…، ولكنهم حموا الدور وما تبقى من أرض وما زالوا، وإلى جهنم وبئس المصير الخرائط الهيكليّة ما دامت المؤسسة مقدمة على غيّها، وليبولوها ويشربوا ماءها.
إذن الأمر واقعيّ عندما نقرّر أن يصير واقعيّا وواقعا !
الوقفة الرابعة: مع الأسباب.
ربّ قائل يقول في الغرف المغلقة والجلسات الخاصّة: “يا عمّي أهل بيت جن دروز يخدموا في الجيش واللي يطلع في يدهم ما يطلع في يدنا”، ولا نطمرنّ رؤوسنا في الرمال فالأمر مقول ويقال كلما حدث صدام. غير أن الحقيقة ليست هنا بتاتا ففقط قبل أيام خرج من السجن ضابط برتبة مقدم احتياط، لأنه رفض أن يدفع الغرامة الماليّة على بناء بيت لابنه، فلم تشفع له لا خدمته الطويلة ولا رتبته العالية، ولكن على الأقل قضى أيام السجن وهو مطمئن أن هنالك من سيحمي بيته من الهدم.
وإذا أردت بيّنة أخرى دعما لنفي هذا الادعاء، فقد هُدم مؤخرا بيت في حرفيش وأهلها يخدمون في الجيش، وما فعلوا كما فعل أهالي بيت جن. إذن القضيّة هي قرار شعبيّ بالاستعداد للمواجهة حماية للبيوت، والرسائل هذه وصلت للمؤسسة وقائعيّا عند كل اعتداء أو محاولة اعتداء على البيوت أو على الأراضي فغدت تحسب للأمر ألف حساب، وما زالت مئات البيوت المبنيّة بدون ترخيص في بيت جن محميّة.
الوقفة الخامسة: مع طارق بن زياد.
ما أحوجنا في هذه الأيام للمعنى الكامن في مقولة ابن زياد المشهورة، وبعد أن أحرق السفن في طريقه إلى الأندلس، “البحر وراءكم والعدو أمامكم”. لا أدعو لحرق وسائلنا التقليديّة، ولكن بما أن الهدم وراءنا والهدم أمامنا والهدم فوقنا والهدم تحتنا، فما بقي لنا إلا أن نجعل وسائلنا التقليديّة ظهيرا، ليس إلا، وليكن قرارنا: سنحمي بيوتنا (كلّنا) وإن لم نستطع فسنعيد بناءها ونحميها (كلنا)، حينها وفقط حينها سنصنع لأنفسنا هيبة يحسب حسابها القريب والبعيد.
أواسط كانون ثاني 2017
sa.naffaa@gmail.com