بيروت خيمتكم، الجليل خيمتنا / جواد بولس

%d7%9c%d7%9b%d7%99%d7%93%d7%94

بينما كنا نسمع  خبر استبعاد فيلم المخرجة النصراوية مها الحاج عن مهرجان بيروت للأفلام فاجأنا صديقي الطبيب وقال: ما زالت العرب تجهل حقيقة ما جرى في عام النكبة، فالمصيبة تكمن في عدم فهمهم الأساسي المتجذر وجهلهم المزمن في الأصول،  حيث تبقى التفاصيل هوامش لا تزيد ولا تنقص.

كان معنا أسير سياسي محرر قضى عدة أعوام في سجون إسرائيل، بدأ يحدثنا كيف كانت خيبة أمله حين رفضت دولة الجزائر في العام ٢٠١٠ السماح لوفد من الجماهير العربية كان يرأسه رئيس لجنة المتابعة العليا، في حينه، السيد محمد زيدان دخول أراضيها للمشاركة في مؤتمر للتضامن مع الأسرى الأمنيين الفلسطينيين. كانت حجة سلطات الجزائر التي أعلنت على الملأ أن جميع أعضاء الوفد يحملون جوازات السفر الإسرائيلية! ولم يشفع لهم أن بعضهم كانوا قيادات معروفة في مواقعهم وآخرين أسرى فلسطينيين. كان بوسع الجزائر إيجاد حل بديل يمكّنهم من دخول البلد والاستغناء عن تلك البهدلة.

كنا سبعة ننتمي لمشارب سياسية مختلفة. منا من كان شيوعيًا، أو ما زال، ومنا القومي ومنا الذي شرد، ومنا الحزبي، ومنا الذي انفلق. المهم أن كل واحد كان يحمل قصة عن حادثة جرت معه أو سمعها من قريب أو صديق. قصص تختلف بتفاصيلها لكنها تأخذنا إلى نفس البئر، حيث الحقيقة تصرخ لاهثة، فأشقاؤنا العرب لم يذوتوا بعد أننا، نحن الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل، كنا أصل الحكاية وبقينا روح الرواية، وصمودنا على أراضينا هو المعجزة والسر والنهاية.    

أقدم الروايات استعاد تفاصيلها صديقي الطبيب. متهكمًا على تلك الأيام التي استذكر فيها أحداث تلك الرحلة البحرية الظريفة التي حدثت قبل نصف قرن. اللافت، هكذا أكد صديقنا، على أنه وبرغم مرور السنوات الطويلة ما زالت إمكانية تكرارها في أيامنا واقعية وممكنة، طبعًا مع ما يحتمه الواقع الجديد من تغييرات على فصول المشهد.

في أحد أيام صيف عام ١٩٦٦ غادر صديقي مع بعض رفاقه في الحزب الشيوعي على ظهر سفينة مبحرة من ميناء حيفا إلى ميناء ليماسول القبرصي، وذلك بعد أن فازوا بمنح دراسية مكنتهم كأبناء للكادحين من الدراسة في جامعات الدول الاشتراكية والتخرج منها أطباء ومهندسين وأكاديميين، وفي وقت كانت سياسة إسرائيل تعرقل إمكانيات انخراط مواطنيها العرب في الدراسات الجامعية والتقنية على أنواعها، وتتعمد إبقاءهم جهلة عساهم يصيرون عندها “حطابين وسقاة ماء”.

في قبرص استقبلهم موفد الحزب الشيوعي السوفياتي. وبعد إنهاء بعض الاجراءات البيروقراطية رافقهم إلى ظهر السفينة الروسية التي ستقلهم إلى حضن الأم الدافئ، حيث كانت الشمس، في موسكو، تشرق على كل الشعوب.

أدخلوا إلى غرف أعدت لجميع الطلبة الوافدين من مختلف الدول العربية. جمعوا معًا وطُلب منهم تعريف أنفسهم. فقام كل وفد بتقديم رفاقه ولمحة عن حزبه ووطنه. عندما جاء دور صديقي ورفاقه شعروا بحرج كبير وإشكال كاد يسبب الاعتداء عليهم، فبعد الناصرة والبعنة وحيفا وكفرياسيف والرامة كان عليهم أن يأتوا على اسم الدولة التي جاءوا منها ولمحة عنها وعن حزبهم. كل محاولاتهم لاقناع رفاقهم العرب بأنهم عرب مثلهم وفلسطينيون باءت بالفشل. كبرت المشادة. الرفاق من الدول العربية اتهموا الرفاق الفلسطينيين، الذين أصبحوا على حين فجر دامٍٍ مواطنين في دولة صار اسمها إسرائيل، بالخيانة واعتبروهم إسرائيليين ومدسوسين؛ فكيف يمكن أن يكونوا عربًا وفلسطينيين ويعيشون في دولة إسرائيل المزعومة؟ (هكذا كان العرب يصفون إسرائيل). جميع الرفاق أصروا أن الفلسطينيين الأصايل يعيشون في الخيام وفي المنافي، ومن بقي هناك في الداخل ولم يرحل لا بد أن يكون متعاونًا أو مزروعًا أو متصهينًا.

كانت السفينة تمخر عباب البحر والصراخ من تلك القاعة يمور في زبد الموج ويتلاشى مع فرح النوارس في الجو.

انتهت المعركة من غير أن تترك جرحى، وذلك فقط بعد تدخل الرفيق الأكبر وسعيه لتهدئة الأجواء وتصفيتها. كانت الرحلة طويلة تخللتها جولات من نقاشات مضنية أفضت في النهاية إلى نجاح صديقي ورفاقه بتوضيح ما كان يجهله الرفاق العرب وأهمه أن في الوطن الذي كان يسمى فلسطين بقيت أقلية فلسطينية عنيدة حكيمة، وبصمودها مهدت لأن يبقى هناك خلف الجسر والضباب وطن اسمه فلسطين.

من تلك القصة في الجزائر تنقّلنا إلى غيرها في قبرص وموسكو واليونان إلى أن وصلنا بيروت مجددًا ومهرجان أفلامها الذي استبعد القيّمون عليه هذا العام مشاركة فيلم “أمور شخصية” لمخرجته ابنة الناصرة، وذلك لأن إنتاج الفيلم تم بدعم مالي قدمه صندوق إسرائيلي رسمي وهي حقيقة أجبرت، على ما يبدو، المخرجة على تقديمه في مهرجان “كان” الدولي على أنه فيلم إسرائيلي.

يلاحظ أن الاهتمام بهذا الخبر كان هامشيًا ولم يستدرج التفاتة إلا من قلة قليلة من المهتمين في شؤون الثقافة وهي الضحية الأشهر في عصر الانحطاط العربي الصدئ الذي نعيشه ونواجه مآسيه يومًا بعد يوم.

قد تكون الحجّة التي تذرعت بها اللجنة لاستبعاد مشاركة  الفيلم، هذه المرة، حقيقية ومبررة مع أن اللجنة ذاتها شطبت فيلمين عربيين آخرين لأسباب سياسية فئوية بحتة، ولم تتصرف بنزاهة مهنية متوقعة منها.

مع هذا من الواضح أن قرار بيروت فتح مجددًا باب النقاش حول علاقتنا كمواطنين عرب في إسرائيل مع الدول العربية، وكيف تتعامل معنا تلك الدول سواء على الصعيد الرسمي أو الشعبي. وسؤالي، بناءً على تجارب الماضي:
هل كانت لجنة المهرجان ستقبل الفيلم ومخرجته والممثلين، وكلهم حملة جوازات سفر إسرائيلية، حتى لو لم يحظ الفيلم بتمويل إسرائيلي؟
هل كانت بيروت ستقبلهم كما هم: عربًا يمثلون أقلية صامدة أم ستشترط عليهم الدخول الى أراضيها بشروط وفي طليعتها الحصول على جوازات سفر فلسطينية أو غيرها مثلًا؟

بعيدًا عن قضية فيلم “أمور شخصية” وما رافقها من مفارقات عينية استجلبت  مواقف لها ما يبررها، وبعد أن قرأت ما كتب في هذا الشأن (بعض المقالات في المواقع المحلية) وبمعزل عن جميع التفاصيل التي خاضوا فيها والجديرة بالنقاش والتمحيص والتفكيك والمتابعة، أود أن أسجل موقفي ازاء اشتراط بعض الدول العربية والإسلامية علينا كعرب نحمل جوازات السفر الإسرائيلية بضرورة حصولنا على جواز سفر بديل ومقبول لدى تلك الدولة، وبدونه لن تسمح لنا تلك الدولة بدخول أراضيها حتى لو كان الواحد منا مقبولًا ومرحبًا به هناك ولا اعتراض على سيرته الذاتية وشهرته الوطنية. فلبنان على وجه التخصيص سمح ويسمح لمواطنين عرب يسكنون في إسرائيل دخول أراضيه بجواز سفر فلسطيني يستصدر خصيصًا لهذا الغرض.

واذا كان من الطبيعي أن تحتفظ كل دولة سيادية بشروط يجب على الراغبين بزيارة أراضيها تلبيتها، واذا كنت متفهمًا لعدم استعداد لبنان او أي دولة أخرى تسويغ وقبول جواز السفر الإسرائيلي، حتى لو كان مفروضًا علينا كمواطنين في الدولة، فلماذا لا يُكتفى باصدار وثيقة على الحدود تمكن صاحبها من الدخول والخروج بسهولة، لا سيما إذا عرفنا أن إصدار جواز سفر فلسطيني هو ليس بحق معطى للمواطنين العرب في إسرائيل وإصداره شأن غير متاح بسهولة وبوفرة، وقد يعتبر مخالفة يعاقب عليها القانون؛ فإذا كانت النوايا تسهيل حياة مواطنين صمدوا وعاشوا محاصرين لعقود من القمع والملاحقة وإذا كانت تلك الدول تعتبرنا حقيقة أشقاء مرحبًا فينا على أراضيها فلماذا لا يفتشون عن بدائل تيسّر ولا تعسّر بدل أن يضعوا حواجز من الصعب تجاوزها بعد هذه السنين الطويلة من القطيعة  والفصل الحرام. (من الممكن الإفادة من تجربة تسهيل الحج إلى مكة كمثال على التسهيل وليس للتقليد).

قد يكون استبعاد هذا الفيلم من مهرجان بيروت مبررًا، لكننا نعرف أن الحقيقة غير والواقع مغاير، فنحن العرب غير المهزومين ما زلنا ضحايا ذلك الجهل العربي المتفشي من زمن النكبة، ونحن العرب الذين لم تقدر عليهم، حتى الآن، حبائل الصهيونية، ما زلنا نعاني من مزايدات نخب في بعض الدول العربية تخشى أن ترى ذواتها في مرايا الهزيمة والعجز، ونحن الباقون كالصبار في هذا الشرق يجب ألا نستجدي  تأشيرة دخول إلى بلاد ربت إذاعاتها أجيالًا على الوهم والكذب وهي تردد “بلاد العرب أوطاني”، ونحن يجب أن نكف عن قطف رؤوسنا وموافقتنا على إبراز شهادة حسن سلوك تجيز لنا حرية الحركة في تلك البلاد، السجون.

معظم  الذين كتبوا في هذا الشأن عبّروا عن تفهمهم لمواقف الأنظمة العربية تجاه الأقلية العربية في إسرائيل وبعضهم، وهم قلة قليلة، طالب هذه الأقلية بضرورة التوقف عن غنج الادعاء بتميزنا كأقلية عانت وتعاني وبفرادة تجربتنا وموقفنا؛ أنا لست من هذه الفئة، وفي تقديري أن أكثرية المواطنين ليسوا مع هذا الرأي، فنحن لا عيب فينا سوى أننا رفضنا إغواء هسيس الجان، وآثرنا ما يقوله لنا الفجر في سماء جليلنا وكرملنا، وبقينا فيهما حماة للديار وللمواويل ولخوابي الأجداد.

نعم إننا عرب مميزون وقصتنا مع أشقائنا العرب لم تكن من موّل فيلمًا أو “سرق رمانةً”، بل  كانت قصتنا وما زالت أين خيمتنا؟ أين خيمتنا؟
قد تكون بيروتكم تلك هي خيمتكم، لكننا كنا هنا في الناصرة واللد والرملة والجليل “سبعون مستحيل”، فإما أن تقبلونا يا عرب كما نحن، أو تعالوا وتعلّموا كيف نربي الأمل في مطارحنا ونحترم الانسان ونصون الوطن.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .