هذا ما ردّدناه قُبيل العيد، كلّ عيد، بإضافة: “وراح المعلم وقتلاتو” ! سمعنا بعض الآباء المخضرمين، وبعض البعض من أبنائهم، فتجمهر الصغارُ منهم حول “الهيصَة”، وراحوا يشدّون من أذهانهم قدرةً على تحليل مفرداتها… والمعضلة كامنةٌ في تفسير كلمة “فَرَح” العائد إلى العيد. بعضهم ترجمها بـِ “سرور”، وآخرون بـِ “بهجة” … وهذا انجازٌ يُطاول حدّ الإعجاز لطفلٍ معلمه ما قرع باب عقلٍ ليُفتح … ولا ضرب بحزمٍ على طاولةٍ لتُدوّي في أُذنِ الصَفِّ انضباطًا. (وهذا جدلٌ لا ينتهي ما دامت ردة: حرية، ديمقراطية بكلّ متفرعاتها قائمة).
أما الباقونَ فصمتوا كُليًّا لأنهم “تيوس” بفهم المقروء … لكنهم “الأشطَر” بفهم المحسوس، يفهمون المقروء على الطريقة العتيقة بوسائلهم الفطرية: البساطة، المحبة والفرح. وهنا مرابط خيولهم على مساحة العالم.
إجا العيد..! وُلد العيدُ في صحنِ الخِراف طبقًا مغذيًا لما يحتويه من تواضعٍ وسموّ، بساطةٍ وعظمة، محبةٍ وحِلم. فانشقّت الأرضُ عن نبعِ دفءٍ روحيّ لم تختبره البشرية من قبل … فباركت السماءُ بزخٍّ من نورٍ لم تقشعهُ ولا ارتوَت بمثله البشريةُ قبل هذا الحدث الذي غيّر وجه التاريخ، وصوّب الأنظار إلى وطن الشمس حيث سيرتفعُ صوت المـُخلِّص، بعد حين، بالنداء: “دعوا الأطفال يأتون إليَّ!” وكانت فرصةً للتكفير عن الآثام الماضية، ولكن…
رحلت قرون وحلّت في بيوتها قرون، وإذ بالعيد سُلطان في قصره المـُبهِر معتقل … وفي حضن فرشهِ الوثير توترٌ عالٍ يحولُ دونه وضبط العلاقة ما بين القلقِ والأرَق .. كأنه طفلٌ بينه وبين تحديد الفرق ما بين النُعاسِ والكَبوة مسافةُ طريقٍ مرصوف بالهموم، ولا يزالُ الطفلُ في السلطان حيَّا يلهو مع أترابه في باحة القصر من خلال نوافذ نفوسهم المشقوقةِ على العالم الخارجيّ للكبار يُبصرون … لكنهم لا يملكون الوقت، ولا الجرأة على التعبير. وكأني بهم يتهامسون: “بلى أيها الشاعر الكبير، “توجد منطقةٌ وسطى بين الجنة والنار، إنها هنا حيث اختلطت الطعمات بالنكهات، اللهفة بالفتور، الكاوي بالمجلِّد كما السواد بالبياضِ الناضِجُ بالفَجّ …
أفهمهم، فكيف لهم أن يفصحوا عمّا يقرأون، وكلّ الشواهد تشي بعكسِ ذلك ؟! فقد ازدانت البلدات من رؤوسها وحتى أخماصِ أقدامها بالمزركشات المصمّمةِ أشكالًا وأضواءً بكلِّ الألوان الأصلية والمشتقة. واتّشحَ الليل بأحلامٍ أكبر من أحلامِ الأطفال وواقعهم. هذا بالإضافة إلى قطارات الهدايا … وما أدراكَ ما فيضِ الهدايا !! الموائد العامرة بأطعمتها الفاخرة، عصائرها، تساليها ومحلياتها …. وما أدراك ما كلُّ هذا التَرَف ! وازدحمت أبواب بيوت العبادة (الكنائس) بالمصلّين والمهنئين، المرنمين والمرتلين … وما أدراك ما كلُّ هذا !
في هذه الأجواء – سيدي الشاعر- لك أن تدخُل بدون دعوةٍ إلى المنطقة الوسطى … والعيد حلالٌ وحقٌّ للجميع. لكن حالما تطأ قدماك هذه المنطقة ستُصفع بواقع عصرٍ “إيدوطايله”، عصرِ تطويع الإنجازات المستحيلة، وأهمها جوهريًا، تقزيمُ حقيقةِ شخصية العيد بالإيحاءات، وعملقة أشباهها بالمنشّطات والمنبّهات البصرية والسمعية. ومن ارتدادات هذا فرحتان: فرحةٌ بالعيد مفتعلةٌ، وأخرى بغياب سطوة معلِّم متخيّلة، وبينهما أطفالٌ ضيّعوا الطريق بين المسرحيتين … فلا هذه تروي ظمأ بهجتهم المتخمة، ولا تِلك تُلطّف من جفاف واقعِهِم الملخوم ! لكنهم مُبدعون باستنبات مسرّات يركبونها … قد توصلهم إلى ذاك الشعور الغريزيّ العميق وإن كان مؤقتًا، لكنه مولودٌ معهم ليبقى فرحًا يستمدون منهُ تلكَ القوة التي تؤهلهم لمواجهة التحديات اللاحقة.
فأيهما، يا ترى، أكثر إيلامًا “أنّةُ ذاك الطفل الضرير” أم أنّةُ هذا البصير ؟! وهل بإمكاننا في هذا المفترق أن ندفع الأطفال حتى “يأتوا إليه” ليَفرحوا فينطلقوا ؟!.