فلسطين 2019 … متطلبات وقف مسار التدمير الذاتي

أصدرت لجنة السياسات في مركز مسارات هذه الورقة من إعداد هاني المصري، مدير عام المركز.

مقدمة

دخلت فلسطين العام 2019 محمّلة بتحديات ومخاطر جسيمة، تبدأ باستمرار المساعي الأميركية لتطبيق ما تسمى “صفقة ترامب” الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية، وتمر بتسارع وتكثيف المخططات الإسرائيلية الرامية إلى استكمال خلق واقع على الأرض يجعل الحل الإسرائيلي، بغض النظر عن الشكل الذي سيأخذه، هو الحل الوحيد المطروح والممكن عمليًا، ولا تنتهي باستمرار الانقسام وتعمّقه أفقيًا وعموديًا.

 

تبدو الحالة الفلسطينية كأنّها تدخل طورًا من التدمير الذاتي، خصوصًا بعد فشل المحاولات المصرية لإحداث اختراق في ملف إنهاء الانقسام، وتداعيات ذلك بحل المجلس التشريعي، وإعلان كتلة “التغيير والإصلاح” النيابية التابعة لحركة حماس عن “نزع الشرعية” عن الرئيس محمود عباس، والتهديد بالشروع في تطبيق “عقوبات ذكية” تهدف إلى تقويض حكم “حماس”، بدأت بسحب موظفي السلطة الوطنية الفلسطينية من معبر رفح، ما أدى حتى الآن إلى فتحه باتجاه واحد، وبدء جهود مصرية ترمي إلى عودة الموظفين والحفاظ على تفاهمات التهدئة خشية انزلاق الأمور نحو مواجهة عسكرية واسعة لا أحد يريدها الآن.

 

ورغم التحديات والمخاطر، هناك فرص يمكن توظيفها إذا توحد الفلسطينيون على رؤية وبرنامج يجسد الشراكة والقواسم المشتركة، ويكفي رؤية تراجع الدور الأميركي في المنطقة، وفشل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتسويق صفقته فلسطينيًا، ورهن العرب موافقتهم عليها بموافقة الفلسطينيين، ليتأكد أن بالإمكان تحويل التحديات إلى فرص تخدم كفاح الشعب الفلسطيني إن تحققت وحدة الرؤية والهدف والقيادة.

ستركز هذه الورقة على الحلول المطروحة من طرفي الانقسام والأطراف الأخرى، وفرص تحققها، إضافة إلى اقتراح خطوات وإجراءات هدفها وقف الانزلاق نحو مزيد من التدهور، وتوفير بيئة داخلية تسمح بإطلاق عملية جدية لإنهاء الانقسام.

جدل الانتخابات

تضمّن قرار المحكمة الدستورية الذي حلّ المجلس التشريعي الدعوة إلى تنظيم انتخابات تشريعية خلال ستة أشهر، وشهدنا جدلًا واسعًا حول صحة القرار، ولماذا اكتفى بالدعوة إلى انتخابات تشريعية حصرًا، مع تجاهل الانتخابات الرئاسية، ما فسرته بعض الأوساط النافذة بأن الرئيس عباس يجب أن يكون بعيدًا عن التجاذبات السياسية، ويجب المحافظة على وجوده لمنع انهيار النظام السياسي الفلسطيني، إلا أن هناك أسبابًا أخرى منها أن الرئيس بلغ من العمر 84 عامًا، ويعاني من المرض، وعليه أن يقرر إذا حُسم أمر الانتخابات الرئاسية: هل سيخوضها، أم سيفتح الباب لخليفته؟ وهذا امتحان لا يفضل الرئيس مواجهته.

وشدد الرئيس مؤخرًا في لقائه مع الصحافيين والكتاب في القاهرة على ضرورة إجراء الانتخابات التشريعية، مع تأكيده بأنه لن يمضي في إجرائها إذا لم تشمل القدس. لكن هذه العقدة يمكن حلها إذا جرت الانتخابات على قاعدة التمثيل النسبي الكامل، أي نظام القوائم، واعتبار الأراضي الفلسطينية دائرة انتخابية واحدة، وفق قرار بقانون رقم (1) لسنة 2007 بشأن الانتخابات العامة، الأمر الذي يتيح لأهل القدس التصويت في أي مركز اقتراع قريب من أماكن سكناهم.

العقدة العصية على الحل هي شمول الانتخابات قطاع غزة. فقد تستخدم السلطة قانون 2007 للقفز عن هذه العقدة من خلال الدائرة الانتخابية الواحدة، ولكن السؤال: هل يمكن تمرير ذلك دون مشاركة فعلية في العملية الانتخابية في القطاع؟

هذا أمر متعذر، لأنّ “حماس” إذا وافقت على إجراء الانتخابات سيُطلب منها أن تمكّن الحكومة من الحكم في القطاع أولًا لكي تتمكن من التحضير والإشراف على الانتخابات، وهذا غير محتمل أن توافق عليه “حماس”.

إن إجراء الانتخابات بصورة جماعية متعذر، لا سيما في ظل الشيطنة والتحريض والتخوين المتبادل من طرفي الانقسام، والانتهاكات الواسعة لحقوق الحريات وحرياته، كما لاحظنا ما حدث على خلفية قمع احتفالات “حماس” بانطلاقتها في الضفة الغربية، ومنع “فتح” من إحياء ذكرى انطلاقتها في قطاع غزة، واعتقال واستدعاء المئات للحيلولة دون ذلك.

هل يمضي الرئيس بإجراء الانتخابات في الضفة وحدها إذا سمح الاحتلال بإجرائها، بما يشمل القدس، وفق نظام التمثيل النسبي الكامل أم لا؟

من الناحية القانونية هو مُلزَم بإجرائها، لأن قرار المحكمة الدستورية مُلزِم، إلا إذا تم تجاوزه وضرب به عرض الحائط، وهذا ممكن، على خلاف ما حصل في التعامل مع قرارها بحل التشريعي إذ اعتُبر ملزمًا وليس بمقدور أحد تجاوزه.

سمحت إسرائيل بإجراء الانتخابات مرتين لأنها جرت ضمن عملية سياسية تخدمها، وهي يمكن أن تمرر إجراءها إذا جاءت في سياق تعميق الانقسام وتساعد على تحوله إلى انفصال. وإذا سمحت بإجرائها هذه المرة فلن تقبل نتائجها إذا فازت “حماس” مجددًا.

كما أن سيف شروط اللجنة الرباعية لا يزال مخيما فوقنا وأكثر من السابق بعد أن كاد مشروع القرار الأميركي ضد حركتي حماس والجهاد في الجمعية العامة أن ينجح، وحصل على 87 صوتًا، منها كل الدول الأوروبية بلا استثناء.

رغم ذلك يبقى من الصعب توقع المضي في إجراء انتخابات في الضفة وحدها، لأنها ستعني تحول الانقسام إلى انفصال، وهذا ستكون له تداعيات كثيرة، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية، أهمها أن هذا يحقق أحد أهم أهداف “صفقة ترامب”، وهو فصل الضفة عن القطاع، وجعله مركز “الدولة العتيدة” التي لن تكون دولة. فمن غير المسموح إسرائيليًا قيام دولة فلسطينية حقيقية في الضفة والقطاع، ولا في الضفة وحدها، ولا في القطاع وحده، لأن الاتجاه السائد في إسرائيل يعتبر قيام دولة فلسطينية ذات سيادة في أي مكان بمنزلة بداية العد العكسي لوجودها.

من الصعب إجراء الانتخابات في الضفة وحدها لوجود معارضة فلسطينية وعربية، وخصوصًا مصرية وأردنية، لأن ذلك يزيد المخاطر الأمنية الناجمة عن تلاشي أمل إقامة دولة فلسطينية، وفتح أبواب التهجير الطوعي والقسري، ما يرمي أعباء الضفة على الأردن والقطاع على مصر، وحتى لو جاء ذلك ضمن نظام القوائم الذي يسمح بوضع أشخاص من القطاع، لأن هذا مخالف للمنطق ولقانون الانتخابات الذي يمنع إجراءها في منطقة لا يتمكن الناخبون فيها من التصويت. وهنا، فإن كل الحديث عن الوسائل البديلة الإلكترونية وغيرها ليس أكثر من ضحك على الذقون.

يمكن أن يوافق أصحاب الدعوة لانتخابات المجلس التشريعي على إجراء انتخابات رئاسية أيضًا متزامنة أو متتابعة ويستعدون لها، لأنها تعكس استمرار الالتزام بمخرجات اتفاق أوسلو، ويعتبرون أي فكرة أخرى مثل تجسيد دولة فلسطين من خلال استبدال السلطة بالدولة قفزة في المجهول، لأنها تشكل انقلابًا على “أوسلو ” والشرعية الدولية، وستقود إلى نتائج وخيمة تجعل تجسيد الدولة الفلسطينية أبعد عن الحدوث، وفتح أبواب إقامة “إسرائيل الكبرى” وتهجير الفلسطينيين.

ويطرحون بدلًا من ذلك تشكيل حكومة وحدة وطنية من الفصائل داخل المنظمة المستعدة للمشاركة فيها، لأن حكومة الوفاق التي يرأسها رامي الحمد الله استنفدت نفسها بعد وصول جهود المصالحة إلى طريق مسدود، على أن تقوم هذه الحكومة بالتحضير لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية. وبالنسبة إلى هؤلاء، فإن أي انتخابات يجب أن تأتي في سياق المحافظة على اتفاق أوسلو.

المنظمة والسلطة والدولة

هناك في الأروقة الفلسطينية من يدعم فكرة تحويل السلطة إلى دولة تحت الاحتلال، ويروج لها بشكل يومي، وهي تأخذ صيغ متعددة:

إما اعتبار المجلس المركزي للمنظمة بديلًا عن المجلس التشريعي، وفي هذه الحالة تصبح اللجنة التنفيذية حكومة عموم فلسطين، وهذا يعني تعميق الانقسام والمضي عمليًا في إذابة المنظمة بالسلطة، وليس العكس كما يروّج أصحاب هذه الفكرة، خصوصًا إذا لم يترافق ذلك مع تنفيذ قرارات المجلسين الوطني والمركزي بخصوص إعادة النظر في العلاقة مع الاحتلال، ووقف التنسيق الأمني وإلغاء اتفاقية باريس الاقتصادية.

أو تشكيل مجلس تأسيسي للسلطة إلى حين إجراء الانتخابات، يحاول أن يوسع دائرة المشاركة ليشمل بعض المقاطعين أو المستثنيين، يقام إلى جانب مؤسسات المنظمة، على أن تشكل حكومة وحدة وطنية ممن يقبل المشاركة على أساس أن هذا الترتيب يكون انتقاليًا، فلا يقطع مع أوسلو كليًا ولا يحافظ عليه كليًا.

أما بالنسبة إلى “حماس”، فهي تتمسك بتنفيذ الاتفاقات، وخصوصا اتفاق القاهرة 2011، وتوافق على إجراء الانتخابات بشرط أن تشمل الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني، ربما لإدراكها تعذر ذلك.

فكيف يمكن إجراء انتخابات في ظل هذه الأجواء المسمومة، ومن قادر على ضمان أن “حماس” ستمكّن السلطة من مدّ نفوذها إلى القطاع في حال فازت “فتح” في الانتخابات، وضمان تمكين “حماس” من الحكم في الضفة إذا فازت في الانتخابات، فالاحتلال بالمرصاد للحؤول دون ذلك، هذا إذا توفرت النية عند الرئيس و”فتح” لتسليم الحكم لـ”حماس”.

أي انتخابات حرة ونزيهة وتحترم نتائجها تشترط أولًا وفاقًا وطنيًا وتوحيد المؤسسات المنقسمة. ففي هذه الحالة فقط يمكن تعطيل قيام الاحتلال بمصادرة النتائج كما حصل في العام 2006 عبر الاتفاق على حلول من يلي في القائمة محل النائب المعتقل، وبهذا يخرج الجميع منتصرًا محافظًا على وجوده بغض النظر عن نتائج الانتخابات.

وفي سياق آخر، تقوم “حماس” بجس نبض وحث متواصل للفصائل والشخصيات المستقلة ومؤسسات المجتمع المدني لمشاركتها في إدارة قطاع غزة، عبر تشكيل حكومة أو حكومة عموم فلسطين أو مجلس إنقاذ، والاقتراح الذي قدمته بشأن تشكيل لجنة لإدارة معبر رفح دليل على ذلك. كما تروج لفكرة تشكيل جبهة إنقاذ تكون موازية للمنظمة الجاري تفصيلها على مقاس الرئيس عباس و”فتح”، تمهيدًا لتكون البديل في اللحظة المناسبة.

تأسيسًا على ما سبق، يجب الامتناع عن مد المرحلة الانتقالية المترتبة على اتفاق أوسلو، من خلال إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية لسلطة الحكم الذاتي، في سياق إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي، والتحضير لإجراء انتخابات للدولة، ولكن هذا لن يتحقق إذا لم تتحقق الوحدة التي تستنهض طاقات الشعب الفلسطيني، بمختلف قواه وأفراده، في مواجهة ردة فعل الاحتلال الذي سيحاول منع ذلك.

نحو بيئة مواتية لاستئناف الحوار الشامل

ما سبق يزكي مرة أخرى أن الحل المعقول للمأزق الفلسطيني يكمن في حل الرزمة الشاملة التي مفتاحها الاتفاق على أسس الشراكة، وعلى رؤية شاملة، وبرنامج سياسي قادر على التحليق فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا، من دون أن يعني ذلك تأكيد الالتزام باتفاق أوسلو، بل يكفي الالتزام بالقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية كرزمة واحدة وليس بالمفرق.

يمكن أن تطبق الرزمة الشاملة بالتوازي والتتابع والتزامن، وتشمل ضمانات فلسطينية وعربية وآلية تطبيق ملزمة.

هنا، ليس مقنعًا الحديث المتكرر من بعض الأوساط من الفريقين بأن لا وحدة بوجود برنامجين متناقضين. فالبرنامجان ليسا متناقضين إلى هذا الحد، خصوصًا بعد وصول فريق “أوسلو” إلى طريق مسدود، لدرجة اتخاذ قرارات (رغم أنه لم ينفذها خشية من عواقب ذلك) للتخلي عن التزامات أوسلو، بينما وصل فريق إستراتيجية المقاومة المسلحة الأحادية إلى مأزق عميق أيضًا رغم اختلافه عن المأزق الآخر، إذ تبنى من جهة المقاومة الشعبية، ومن جهة أخرى بات يهدد بالمقاومة وخرق التهدئة لحماية السلطة في القطاع، وتمكينها من الاستمرار عبر مرور الوقود والأموال القطرية من خلال إسرائيل.

الخلاصة مما تقدم، أنه على الرغم من الخلافات الواسعة هناك قواسم مشتركة مستمدة من المخاطر المشتركة التي تستهدف الفريقين ومجمل الشعب الفلسطيني، فيكفي التمعن بأهداف “صفقة ترامب” ومغزى إقرار “قانون الدولة اليهودية” لإدراك ذلك.

لتوفير متطلبات التوافق على حل الرزمة الشاملة، لا بد من العمل على ما يأتي:

أولًا: وقف التراشق الإعلامي والاتهامات والتخوين المتبادل، فلا يعقل الجمع بين التخوين والتكفير والحديث في نفس الوقت من طرفي الانقسام عن الاستعداد للوحدة. فكيف تكون الوحدة مع خائن؟

ثانيًا: وقف التدهور عبر وقف الإجراءات المتبادلة، ورفع العقوبات عن قطاع غزة، وعدم اتخاذ عقوبات أخرى، وتمكين موظفي السلطة من العودة إلى معبر رفح، وممارسة أعمالهم بكل حرية.

ثالثًا: إطلاق سراح المعتقليين، ووقف انتهاكات حقوق الإنسان في الضفة والقطاع.

رابعًا: الشروع في حوار وطني شامل في القاهرة برعاية مصرية، على أن تحدد له فترة زمنية قصيرة، ويوضع على جدول أعماله القضايا الجوهرية، وتوسيع المشاركة فيه للاتفاق على الرؤية والإستراتيجية المشتركة، ووضع خطة ملموسة لمواجهة المخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية.

فلا ينفع تكرار القول لا حوارات جديدة، فالحوار السابق تجنب الخوض في القضايا الجوهرية والمختلف عليها، وكان كل طرف يريد من الطرف الآخر الأخذ بشروطه، وركز على الجوانب الإجرائية والشكلية، فضلًا عن حدوث تطورات جديدة، أهمها “صفقة ترامب” التي يجب الاتفاق على كيفية إحباطها.

خاتمة

إذا كانت القضية الفلسطينية برمتها في خطر، والأرض تصادر وتهود باستمرار، ووجود الشعب على أرض وطنه مهدد أكثر وأكثر، فليس مقبولًا ولا معقولًا استمرار صراع الفلسطينيين على الفتات الذي تركه الاحتلال، وما يعنيه من تعايش مع الوقائع والحقائق التي أوجدها بعد أكثر من سبعين عامًا على النكبة، وأكثر من خمسين عامًا على احتلال الضفة والقطاع، وبات بقاء الفلسطينيين تحت رحى دوامة التدمير الذاتي يهدد بالإطاحة بكل شيء.

الوحدة التي تضمن الحقوق والأهداف والمصالح الوطنية أولًا، ومصالح القيادات والفصائل ثانيًا هي الطريق، والتاريخ والشعب لن يرحم، وسيلعن كل من يعرقل أو يمنع تحقيقها.

ما دامت الوحدة لا تتحقق بقبول طرفي الانقسام توفير متطلبات تحقيقها، لا بد أن يتحرك الشعب والقوى الأخرى والنخب قبل فوات الأوان للضغط المتواصل والمتراكم حتى يفرضون إرادتهم على الانقساميين.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .