لن أكتب هذه المرة عن الفن بشكل خالص.. لأن الفن يهوى “الغزل السياسي”، فينافس السياسة وينتصر عليها أحياناً وتسحقه هي أحياناً أخرى.. نزار يونس هو من الشخصيات الفلسطينية التي أعترف بوجودها داخل المشهد الثقافي الفني الفلسطيني، وأعترف بوجودها على الساحة السياسية بتَمَرُدٍ.. هذه بداية مناسبة لمقال يتحدث عن شخصية بحجم يونس ومصداقيته الفلسطينية والعربية، شخصية قدمت الكثير في التلفزيون الخاص على مستوى مناطق48 والعالم العربي من برامج خاصة، أفلام سينمائية(وثائقية، كوميدية ودراما) ومشاريع ثقافية وفنية عديدة، في أول التسعينيات وقت بداية الفضائيات العربية مثل قناة أوربيت، Art و MBC، ومن ثم قناة الجزية وفضائيات عربية أخرى قدمت برامج تهتم بالشعب الفلسطيني وشخصياته، فكان أولها وأبرزها البرنامج التلفزيوني “ديوان الشرق” عام 96، الذي كان كفيلاً بأن يمنح الشهرة العربية والعالمية الكبيرة، لشخصيات فلسطينية بارزة كانت حينها في بداية طريقها كالمخرج هاني أبو أسعد، الممثل الفلسطيني الكبير محمد بكري وشخصيات سياسية وثقافية ليست بالقليلة مثل محمد بركة، الدكتور أحمد طيبي، الدكتور عزمي بشارة، الشيخ رائد صلاح وآخرون.
أعرفه منذ 20 عاماً فلا يهمني أن أتحدث عن أعماله كمنتج أو عن مشروع خاص به، ما يثير اهتمامي الحديث عنه كشخصية أل “مُتَمَردٌ”.. كلمة التمرد لها جمال خاص في الفكر والعمل الاجتماعي الثقافي والسياسي لأنها تدعو إلى الالتزام ولو لسنوات طويلة، وهنا وجب التوضيح أن شخصيات كثيرة يُكتب عنها بسبب تأثيرها ومركزها في المجتمع، وهذا ما دعاني للكتابة عن يونس وعن إنجازاته وأهميته، أيضاً بسبب المصداقية الفلسطينية والعلمية في هذه المرحلة نقول أن يونس كان من أول من دعم الحراك الشبابي الفلسطيني العربي منذ بداية التسعينيات، كي يكون هو عنواناً مهماً لدعم الشباب من الجيل الثاني والثالث للنكبة.
“الالتزام” هي كلمة عريقة تحمل المعنى الكبير وتعبر عن شيء ما في داخلك لا يمكنك تجاهله أو تغييره، فتعيش معه رغم المعضلات والمشاكل القاسية من حولك ورغم المنافسات والفتن وقلة وعي الآخرين لقدرتك.. والالتزام الحقيقي لصاحب “العقل السليم” يعلمك العمل بإمكانيات معدومة بدون تنازل أو بإمكانيات ضخمة بتواضع.. سموه مبدأ أو أيديولوجيا.. سموه ما شئتم، لكنني سميته “التَمَرُد المُلتَزم”، الذي يعمل بمثابة محرك إيجابي فعلي للصناعة والنشاط داخل المجتمع الذي نعيش به.. وهكذا هو يونس الذي كسر حواجز السياسية والدول ووصل بأفكاره إلى مكان بعيد لن يصله من بعده شخص آخر برأيي، لأن جزء كبير من مجتمعنا فقد الدمج بين الالتزام والمصلحة الشخصية، وهذا هو المَطَب الذي نجا منه يونس لأنه جاء من نواة مجتمع أصيل يحب الالتزام ويعرف مدى أهميته وخطورة التلاعب به.
نتج لدينا مصطلح “التَمَرُد المُلتَزم” وهذا سيكون المدخل الى قلب المقالة، مصطلحُ يليق بشخصية عربية فلسطينية أسمها نزار يونس، ليس عبثاً نكتب عن شخصياتنا الفلسطينية، السبب أننا شعب قليل العدد، عظيم القضية، كثير المفكرين، كبير الشأن بالسياسيين الفلسطينيين المحليين والمغتربين.. لقد احتك يونس وحاكى كل هذه الفئات والشخصيات، منذ أن كان في العشرين من عمره أو أقل بدأ يحاور السياسة ب “التَمَرُد المُلتَزم” هذا التمرد الإيجابي يصنع التحدي والتصميم فحين يسألوني من هو نزار يونس أقول: “لا أعرف!!” لأنني لا أحصى عدد المشاركات والمشاريع والأفكار التي قام بإنتاجها والمبادرة إليها وقد خرجت الى النور، بعضها خرج بصعوبة وبدون ميزانيات أو تمويل والبعض الآخر بطريقة أسهل وقد حصلت على تمويل ودعم، ومن المؤكد أنني لا أحصى عدد المشاريع والأفكار والمبادرات التي أسس لها وجهزها لكن لم تخرج الى النور لأسباب عديدة، فبذلك يكون رصيده كبيراً بدعم الكثير من المشاريع والأفراد ودعم الأفراد الذين يحملون مشروعاً أو الأفراد الذين كانوا يحملون مشروعاً على حسب الظاهر لكن تبين بعدها أن مشروعهم كان فردياً ولم يخدم المجتمع فكسروا الالتزام الأخلاقي، مما ضعضع حماس يونس على مشروع “التمرد” الفلسطيني وأحيانا ازداد حماسه لأن البعض التزموا مع مشروعه.
“أرشيف سياسي مرئي مسموع”
أعرف جيداً من خلال الوثائق وأرشيف خاص، أن يونس كان أول “منتج شاب” من الجيل الثالث للنكبة، الذي بادر لفكرة تصوير وأرشفة رجال الثقافة والفكر الفلسطينيين وأرشفهم بشكل دقيق، نظراً لأهميتهم في ثقافتنا الفلسطينية وحضورنا في مناطق 48، الضفة الغربية، غزة والعالم العربي.. فوثق شخصيات كإميل حبيبي، توفيق زياد، محمود درويش، سميح القاسم وغيرهم بأساليب توثيق مختلفة منها تقارير تلفزيونية وأخبار وصلت الى أهم محطات في العالم العربي وفضائيات عربية هامة في العديد من الدول وكان ذلك في بدايات زمن التلفزيون العربي والقنوات الجديدة كما ذكرنا.. وقد صور أيضاً شخصيات سياسية بارزة منذ بداية طريقها حتى قبل أن يعرفها العالم العربي أو المشاهد الفلسطيني العادي في أواخر الثمانينات وبداية التسعينيات، فنلاحظ أن لديه أرشيف غني جداً علماً بأنه لا يوجد أرشيف فلسطيني رسمي بالصوت والصورة.
وقد بادر هو وزملائه مثل رامز قزموز لمشروع توثيق أعضاء كنيست منذ بداياتهم الأولى في ولوج السياسة داخل الكنيست الإسرائيلي، وحارب السلطات الإسرائيلية لتحصيل الموافقات القانونية لأرشفة بعض الشخصيات العربية واليهودية داخل مبنى الكنيست، كي ينقل الحقيقة بالصورة والصوت عن أقلية فلسطينية داخل دولة إسرائيل لا تملك محطة خاصة بها وتصل رسالتها الى العالم العربي، مثل أحمد الطيبي الذي تابعه يونس منذ البداية، الشيخ رائد صلاح الذي أثر تأثيراً كبيراً على السياسة المحلية ومجرياتها، محمد بركة وغيرهم من الجيل الثاني، حتى إستمر بدعم إعلامي توثيقي لأعضاء الكنيست الشباب من الجيل الثالث فوصل مرحلة أيمن عودة الذي دخل الكنيست الإسرائيلي كأصغر عضو برلمان عربي من فلسطين48.
“أرشيف فني ثقافي مرئي مسموع”
بعد الإتطلاع على مواد مصورة رأيت أرشيفاً فنياً لا يستهان به ويمتد منذ الجيل الأول بعد النكبة فقد صور ووثق شعراء كبار أثناء أمسياتهم وحفلاتهم، هذا شيء لم يكن منتشراً حينها بسبب قلة المصورين والمنتجين المستقلين، وضم الأرشيف تصوير عروض مسرح فلسطيني في المدن والقرى العربية وفي الضفة أيضاً، وتظاهرات ثقافية فلسطينية هامة حتى فهم تركيبة الإعلام العربي من ناحية ثقافية وفنية فدخل فيه وساهم بالصوت والصورة من الداخل الفلسطيني، وثق وصور أيضاً ممثلين فلسطينيين ومخرجين في مجال السينما والأفلام وبذكر الفن علينا أن نذكر العلاقة الأخيرة التي نمت مع نجم فلسطين الجديد الشاب محمد عساف والأرشيف الخاص به هناك.
ترددت كثيراً قبل الكتابة عن نزار يونس لأنني أولاً تعودت على الكتابة النقدية عن أعمال خاصة أو حدث يدعو للكتابة عن شخصية ما، وثانياً كي لا يكون المقال عن فرد يعتقد البعض أنه شخصية فلسطينية عادية وبسيطة لا تستحق الإسهاب في التحليل والكتابة المهنية.. لكن بصدق أقول أن يونس هو ظاهرة فلسطينية لن تتكرر، لأن الالتزام جزء من عقله والتمرد هو نواة شخصيته الفلسطينية، ومن أجمل ما نتج عن ذلك هو الدمج بين العنصرين ومنه ولدت مشاريع وأفكار خاصة، تجعل يونس في طليعة الجيل الفلسطيني الجديد.. وهو مشروع فلسطيني مُتَمَرٍدٌ.
عنان بركات
تعديل مقالتي في موقعكم
وصلتني رسالة أن المقالة التي نشرتموها فيها خربطة بالنص يرجى التعديل
شكرا