هنالك شيء ما مفرح في انتخاب محمد بركة رئيسًا للجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل، وذلك بعد منافسة سياسية شارك فيها أربعة مرشحين يمثلون معظم القوى السياسية الناشطة بيننا، ولا أقصد، فقط، ذلك الفرح الشخصي بفوز صديق عريق جمعتني به، منذ أواسط السبعينيات، أحلام الفقراء التي كانت أشهى من فكاك أسير، وطريق سياسي كان يوصلنا دومًا إلى المرفأ الصحيح. فنحن من جيل عاش على أرصفة وطن، حين علمتنا كيف تكون اللذة في الخبز الحافي، وزوّدتنا بسعادة كانت تتنطنط حتى في جراحنا وعلى حافة شهقاتنا وهي ترتجف قبلنا، في الهواء العاري.
بعض النهايات، وانتخاب بركة منها، تُسكِن في القلوب راحة ولا تستوجب شروحًا مفصّلة أو اسهابات فائضة، مع أن العاقل يقر ويعي، رغم اغواء ذلك الفرح الطبيعي، أن مصائر البشر لا تُبنى على حدس، ولا تُضمن بالحس والأماني؛ فالأمل، منذ جرّب الرب إبراهيم، ينمو وفي جوفه يتقلب نقيضه، والخيبة لم تك، منذ انتصار الخنجر على اللحم ، إلّا “حبل سرّة” للتجربة الانسانية و”رفيقتها”، والعبرة، لذلك، تبقى في حكمة “الداية” ومهارتها، وفي براعة الطبيب وفريقه وفي اجتهاد العاقل على دروب الحظ.
فبركه انتخب في عملية سياسية تحمل ملامح النضج والوعي بالمسؤولية، وهو لذلك لا يعتبر رئيسًا توافقيًا، بالمعنى السطحي والشائع، وبالاستيعاب الشعبي التقليدي للكلمة. فالتوافقي، كما رسّخته التقاليد في عقليات العامة، على مدار سنوات طويلة خلت، لا يحمل من مقوّمات الرئاسة أكثر مما تتيحه مؤسسة المخترة العصرية، أو ما يجيده وجيه من وجهاء الملل والنحل والعائلية، والتوافقي، كما كرّسته ممارسة الزعامات التي أطبقت سلاسلها على رقبة المتابعة، يبقى أسيرًا لفرقاء اصطلحوا، وهم يواجهون طريقًا بلا مخرج، على ترئيسه، ومعظمهم يضمر بخبث ويسعى في الواقع لإبقائه رهينة لذلك التوافق، أمّا في حالتنا وبعد انتخاب البركة، فنحن نتوقع بأن يتميز عصره، بدايةً، باستعادة ما خسرته لجنة المتابعة من احترام وثقة بين الجماهير العريضة، وهذا ممكن، برأيي، فقط إذا استعادت اللجنة دورها السياسي الريادي المسؤول، وعادت للعمل كمؤسسة جامعة قائمة على حماية مصالح الجماهير وفق استراتيجيات عمل وطنية واضحة وتعريفات لا تعتمد الضبابية فضاءً ولا الطبطبات وسائل للبقاء الباهت.
لن يختلف اثنان على أن من واجبات رئيس المتابعة التوفيق بين مركباتها المختلفة والمتناقضة أحيانًا، ولكن، شتّان ما بين التوفيق والتجميع والتوحيد والتجسير، وكلها مهام واجبة، وبين التفريط بجعبتها السياسية التي منها يجب أن تستل القيادات سهامها الصائبة والمجدية، لا سيّما في أيامنا هذه، التي غدا فيها صيد البشر رياضةً أثيرةً، ليس فقط هناك عند سوائب المستعمرين، بل في الحدائق القريبة من منازلنا ومحيط ساحاتنا؛ فأنا، وكثيرون مثلي، نرى أن من أهم واجبات الرئيس المنتخب تحصين هذا الإطار القيادي الأعلى بثوابت وطنية حقيقية، وتزويده بمساطر سياسية جامعة، لكنها ذات قيمة نضالية ومؤثرة بشكل حياتي فعلي، وكذلك يجب أن يسعى كأكبر من رئيس مكلّف، وكصاحب موقف ودربة، إلى تبني ضرورة الحسم في مسائل استراتيجية وحياتية بعيدًا عن ديبلوماسية ارضاء الكل على حساب ما يضمن وجودنا على أرضنا وعيشنا بكرامة وأمن وأمان.
وباختصار مفيد، على بركة أن يختار بين الاكتفاء بكونه رئيسًا منتخبًا يقف على سلم ملقى على عرضه وسط الطريق، ويمارس رئاسته بتوافقية ستؤدي حتمًا إلى اجهاض مهمته وإلى خيبة في صفوف من توسّموا بانتخابه خيرًا واستشرفوا أمطار البركة تسقي روابي اشتاقت إلى من يرعى النسائم في جنباتها، أو أن يتحوّل إلى قائد سياسي زيّاد، يضيف للمنصب معنى، وهو صاحب الخبرة الميدانية الطويلة، ويضخ في الموقع روحًا وعنده رصيد نضالي غني وعتيق، ويوسع فضاءات العمل وهو العامر بثقافة وطنية لافتة وعامة لامعة.
كل البدايات صعبة وقد يبدو التغير المنشود بعيدًا، لكنني أرى أن لدى بركة اليوم ما يكفي من الإرادة والمقوّمات والمعطيات التي تمكّنه وتؤهله كقائد أن يزيل ما راكمته السنين من غبار غطّى وأخفى مازرعه البنّاؤون الأوّلون، آباء بركة ورفاقه، في أراضينا من تحد لا يشيخ ووعد صدّاح بأن: “لن تسقط هذه الأعلام/ ما دمنا نغني ونقاتل”.
من المؤكد أننا سنسمع، في مقبل الأيام، من بركة الكثير، فما سمعناه بعد انتخابه مباشرةً لا يتعدى عن كونه كلمتي شكر مستحق، ونفحة عهد مطمئن، وقطرة من غيث سينهمل، والأهم كان في الإعلان عن نيته تقديم استقالته من رئاسة الجبهة التقدمية للسلام والمساواة، وهي لفتة قائد، ووقفة واضحة تدلل على الأهمية القصوى التي يوليها لمهمته الجديدة، وابتعاده عن خدوش وذبذبات الماضي، وهي إشارة هامة جدًا تؤكد على تحرره من مخاضات جبهته الداخلية وأعبائها التنظيمية، والتي أثرت عليه، في السنوات الأخيرة، وعلى أدائه السياسي في بعض المواقع وبعض المسائل، والأهم، برأيي، أنها رسالة لمؤسسات الجبهة تحرِّرها من أي تجاذبات معروفة للملأ أو مخفية وشعرت بها قلة بين الضلوع وفي عوالم الظل.
إطلالته الجدّية المهمة كانت في لقائه مع الإعلامي يوسف شداد على تلفزيون كل العرب النصراوي، وفيها أجاب بركة على جميع أسئلة المحاور، وبعضها كانت مفاجئة وضاغطة، بصدق مباشر، وبجرأة ليست غريبة عليه، وبصراحة واثقة، وأعلن عن رؤاه المركزية التي ستلهمه في أداء مهامه الجسام؛ فنبّه أنه ليس ساحرًا ولا خارقًا، ولذلك سيعتمد في نجاحه على قدرته للعمل والتعاون مع زملائه من رؤساء وقادة سياسيين، وعلى كيفية تعاون هؤلاء معه، ثم أكد أنه رجل الميادين ولذا سيسعى لإدماج قطاعات الشباب والنساء والعمال ومؤسسات المجتمع المدني في نشاطات المتابعة بعد أن استثنيت جميعها إلى حد بعيد من المشاركة في مواقع التأثير والقرار، ثم وعد أن يبادر إلى تعزيز البرامج والنشاطات المستقبلية بتخطيط استراتيجي مهني مدروس، وأنهى بإعلان إيمانه وإصراره على اعتماد الثوابت.
لقد كان لقاؤه الأول في تلفزيون كل العرب هامًا، لكن أقواله، اتسمت في بعض محطاتها بشمولية إيجابية، وبنضوج أبوي يليق بمن يعرف وعورة طريق مشواره، وبحذر قائد خبر ما معنى أن يكون الأول في مواقع شتى، لكنه يعي اليوم بمسؤولية، أن هذه المرة هو في الحقيقة، أكثر من رئيس، وأكثر من مجرد أول، فهو، غدا الأول بين أوائل. ومَن هذا، وفقًا لقواميس السياسة، إلّا القائد الذي عليه أن يتقدم في الطليعة،لا يزايد، ولا يخضع لمزايدات الآخرين، لا يراوح بل يمضي، مع الجماهير، نحو شواطئ الأمان، قائد: يحاور، يناور، يجادل، يناكف، يصد، يتلقى، يتقدم، يتراجع، يحزم، يحكم، يحسم، يصبر، يجرؤ، يُقدم، يجازف بحساب، يهادن بأنفة، يعفو عن مقدرة، يسع عن حلم، يغفر عن ثقة، يتواضع عن رفعة، ينصف عن قوة. يتعب، يمرح، يبكي، يضحك، يحب، يحزن، يعشق، يغني، يرقص، يطرب.. يتقدم يحرز وينتصر!
بالمقابل، يجب أن يكون واضحًا أن بركة ولجنة المتابعة لن ينجحوا، إذا لم نكن، نحن الشعب ونخبه المختلفة، على استعداد لمساندتهم والوقوف معهم وإلى جانبهم في أداء المهمة، فنجاحهم يشكّل ضمانة لعيشنا ولمستقبلنا في وطننا؛ أما هو، وأنا أعرفه منذ أحببنا معًا ذلك الفجر الجوري المعطر، يعلم، أن ابتناء المناقب يكون، عادة، باحتمال المتاعب، وأن إحراز الذكر الجميل، يكون، دائمًا، بالسعي في الخطب الجليل.
فادعوا لهم معي بالتوفيق ولنا بالبركة.