عندما تعصف بي ريح المنافي وتخذلني مواسم الجنى
وتصّفرُّ عشبة الروح.. أرجوك.. لا تترك يدي.
عندما تلفحني نسائم البرد وتهجرني طيور السنونو..
وينكسر شيئًّا في قلبي.. أرجوك.. لا تترك يدي..
دعني أمتطي صهوة الريح وأتجاوز غابات القهر..
امنحني الأمومة صبرًا.. تميمة تقيني من قسوة الزّمان
ففي روحي حبٌّ نابض ومن رحمي تولد حياة..
الله عزّ وجلّ، غمرنا بفضله، وأغدق علينا بركاته وعطاياه، فجّر لنا خيرات الأرض وفتح لنا أبواب السّماء، وسخّر لنا من نِعم الدنيا والأخرة ما هو خيرٌ لنا، وَمن آياته يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.. ومن آياته أيضًا “أنْ خلق لكم من أنفسكمْ أزواجًا لتسْكُنوا إليْها وجَعَلَ بيْنكم مَوَدّةً ورحْمةً ـ إنّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكّرون” فالزواج رباط مقدّس بين الزّوجين وعُقد ووثيقة وشراكة والتزام، والبيوت أسرار، والبيت هو المسكن والمأوى والدّار والموطن والمقام والمكان والمبيت والمقرّ والعائلة، وأضدادها الرحيل والخراب والأطلال والشتات واليباب والآثار والظغن، ومن هنا أتت فكرة كتابي “لا تترك يدي” الذي كتبته بعطر القلب وياسمين الكلام، بعيدًا عن الإرشاد والوعظ، والتّرهيب والوعيد، بلغة إبداعيّة راقية تلائم روح العصر، خاطبت فيها عقول الشباب بكلّ احترام وتقدير واريحية وعفّة وتجرّد، كأنهم أولادي، غيرة وحميّة على أبناء مجتمعنا التوحيديّ الذي يعاني من مشاكل جمّة ومعضلات مستعصية تؤرق مضجع الجميع ومنها هذا الغرق المعنوي الكبير، الذي أغرق كلّ الأشياء الجميلة التي كانت تربطنا، العيش والملح وصلة الرحم ولقمة الحلال، قلع الجذور وجفّف الينابيع، وحدث كلّ ذلك في ظلّ العولمة الحديثة التي حوّلتنا لمجمّعات سكنيّة بدل مجتمعات إنسانية؛ حيث لم يعد الجار للجار، ولا عجقة صبية تلعب تحت كل سماء، ولا لمّة نساء يرتشفون القهوة تحت عريشة العنب؛ عندما كان الوقت لديّهن ليس من فضّة ولا من ذهب! ولم يعد أعزّ مكان في الدنيا سرج سابح ولا خيرَ جليسٍ في الزّمان كتاب! طالما جوجل الذكية سلبتنا عقلنا وشغلت لبّنا ليلا نهارا، في ظلّ عالم بات موحشٌ مجبولاً بالحقد والغلّ والقتل وعدم الأمان ..
عندما راودتني فكرة كتاب “لا تترك يدي” ترنيمة رخيمة أيقظت روحي مع أول خيوط الفجر، وغيمة ورديّة مثقلة بسنابل الخير وثمار المحبة، أمطرتني بأولى قطرات الندى، وكنت سعيدة جدًّا، الشّمس تلوّح لي بيدها والكون يفتح لي ذراعيه؛ طالما أنّني سأقوم بواجب مقدّس أتجاه أبناء مجتمعي الغالي، وأشدُّ حاجة أصبحت ملحّة تؤرق مضجعي، وعلى نيّة الخير طفقت بالكتابة والبحث والمطالعة وجمع الأمثال الشعبيّة والمواد من كلّ عابر سبيل ومن مواقف انسانيّة استفزَتني ومن أمّات الكتب، في تجربة فريدة ومتميزة، وكانت أمثال المرحومة جدّتي عتبة الكتاب وباب الحكاية، وارتأيت ذلك كي يدرك القارئ العزيز أنّنا لسنا رزقًا سائبًا ولنا جذورٌ عميقة في هذه الدّيار، وقد استغرق الأمر قرابة السّنتين والنصف، وفيه حاولت أن أعالج قضايا كثيرة ملحّة تعاني منها طائفتنا المعروفيّة والمجتمع الإنسانيّ عامّة، وأبرزها قضية الطلاق ودور الرجل قبل المرأة في بناء أسرة سعيدة، مباركة، متكافلة، واعتمدت في ذلك على أمثلة شعبيّة من صميم موروثنا الشعبي التّقليديّ، أرتأيت أن أجمعها وأحفظها كي لا تضمحلْ وتتلاشى في زوايا الحاضر المؤقت، وفي خضم حياتنا اليوميّة.. منها ما يصبّ في مصلحة المرأة والعائلة ومنها ما يحطّ من قيمة المرأة ويخلْخل دورها كأم وربّة أسرة وكانسان.. وما زال حلمي أن يقرأ الكتاب كلّ شاب وصبيّة يقفان على عتبة الزواج وأجد تقصيرًا كبيرا من قبل المؤسسات والمراكز والمجالس المحليّة التي تقدّر كلّ شيء! سوى الكتاب، تستهلك الأخضر واليابس دون الكتب، وقد بذلت قصارى جهودي أن يحمل الكتاب رصيدًا فكريًّا وثقافيًّا وإرثًا تاريخيًّا، وتجربة ذاتيّة، إنسانيّة، غنيّة، يمكن أن تلهم الأجيال القادمة، وتمدّهم بمفاتيح هامّة للتَّسلح بالعزيمة والثّبات والتّغلب على المعوقات والصعوبات، وهل بالخبز وحده يحيا الإنسان؟ مقولة سيّدنا المسيح عليه السّلام . وما أعوَزَنا ككتّاب لدار نشر/غير ربحية، تخصّ الطّائفة، تدعم إصدار الكتب وتُعنى بالكتّاب وبأدب الطّفل بالذّات وهو اللّبنة الأولى لبناء وصقل شخصيته وتهذيب سلوكه، أليس الأجدر بالمسؤولين أن يستثمروا بالإنسان بدل الشراب والطعام وزخرف البنيان؟
وصدقًا أقول شعرت بوخزة في سويداء قلبي عندما طلبت منّي الأستاذة الفاضلة، والكاتبة القديرة سهام ناطور، أن أكتب نبذة عن كتابي، وهتفت في سريرة قلبي، أين الصرح الأكاديمي الذي يستهلك كلّ ما هو غربي دخيل، ويترك موروثنا العربي الأصيل، وأين النّقاد والنقد البنّاء، كم يفتقر مجتمعنا لهؤلاء، وهل النفاق يجعلهم يكتبون لكاتب دون الآخر؟ وكيف إذا كانت الكاتبة أمٌّ قد أفنت الكثير من وقتها وأعطت الكثير من نسغ روحها ومداد قلبها، حتّى تزهر نصوصها وتجمعها في كتاب!
ولكن أكثر ما أثلج صدري وجعلني أشعر بالزهو والفخر، هؤلاء الناس البسطاء الذين يستوقفونَني في الشارع وفي المناسبات ويشدّون على يدي ويعبّرون عن امتنانَهم وشكرهم، وعن أهمية الكتاب الذي لمس روحهم وحفر عميقًا في وجدانهم، هؤلاء الأشخاص أصحاب الفطرة السليمة والذوق الراقي، لا يبحثون عن هفوات نحوية ولا حيل لُغويّة، وكلمات ممجوجة، لأنهم يدركون أن النّصّ يصبح أكثر أصالة وفهم عندما ينقل الفكرة بسلاسة ودعة وعفوية وبساطة. وما من كاتب إلا سيفنى.. ويُبقي الدهر ما كتبت يداه فلا تكتب بكفك غير شيء.. يـسـرّك في القيامة أن تراه.
*الكلمة التي كتبتها الأستاذة نور حبيش – يركا
ما أجملَ الزمن الجميل، وماضينا، وعزّنا، ومجدنا وأمثالَنا الشعبيّة حين تُنقل لنا بقلم امرأة واعية، مثقّفة، منفتحة على العالم، مدركة لما يلمّ بمُحيطها وبيئتها، وعلى دراية تامّة بعواقب عصر ما بعد الحداثة ومتطلّباته وسيّرورته. وما أجمل العقل المنفتح حين يستحضر ذكريات من الزمن الماضي، فيتمخّض عن ذلك عمل راقٍ أراه منظومة فكريّة كاملة متكاملة، تجعل الماضي الجميل مقرونًا بالفلسفة القريبة من العامّة. “لا تترك يدي” يجعل القارئ متنقّلًا بين التربية القديمة والحديثة، فيزيل من كليهما القشور الفاسدة والجوانب البائسة، ليكشف عن أطيب ما فيهما وأجوده. إذ يأخذه من نمليّة الستّ الّتي فيها دواء لكلّ داء، وأمثالها الشعبيّة الّتي فيها دواء لكلّ مشكلة عائليّة أو اجتماعيّة، إلى أهميّة التغذية السليمة للأبدان والعقول في عصرنا الحديث، وتغذية الأخير تأتي بتوصية من الكتاب بالمطالعة، إلى جانب الحنان والإصغاء والامتناع عن العنف والإهمال. لا تترك يدي، بالفعل لا يمكن لهذا الكتاب أن يترك يدي حينما استقرّ بها، فهو بجمال كلماته وزخم معانيه يفرض نفسه على يدي ولا يتحلحل منها، فإنّ أيّ شخص يقرأه لا يمكن أن يفلته حتّى آخر كلمة. وكأنّ هذا الكتاب طفل لا يمكنه أن يبرح القارئ ويلزمه على رعايته، وبالوقت نفسه يمسح بيده بحنان على وجه القارئ المثقّف، ويلاطفه، ليجعله متماهيًا معه بكلّ ما أوتي من إحساس وحواسّ.
أمّا أنتِ جارتي الغالية الأمّ الحنونة خالتي أم أجود، في كلّ مرّة أقرأ فيها عملًا لك أقف مشدوهة ومذهولة أمام إبداعك وقدراتك العقليّة، ورغم أنّني تعوّدتُ على انفعالي أمام قدراتك، إلّا أنّ هذا الكتاب صدمني مرّة أخرى بقدرات جديدة رأيتها في قلمك المتألق، الصامد، أراها تتأتّى في القدرة على دمج القديم في القوالب الجديدة، والانتقال بين فكرة وأخرى انتقالًا سلسًا دون أن يشعر القارئ بذلك، ناهيك عن الأسلوب الرّاقي والمفردات النورانيّة الّتي تزيّنين بها الأفكار والمعاني. كلّ ذلك يجعلني فخورة بك، وبقلمك، وبأمومتك، وتجاربك، وثقافتك العصاميّة. وما يزيدني فخرًا هو العنصر الّذي كتبتِ به؛ إذ كثيرون ما يلجؤون إلى تحكيم التنمية البشريّة في كتاباتهم، أو القصّ والسرد، أو الفلسفة والحكمة، أمّا أنتِ في رسالتك هذه وظّفت كلّ تلك الأمور، وجعلت بهذا عقلَ الإنسان سيّدَ الموقف – وهو أقدس ما في العقيدة التوحيديّة – والاتّزان معادلة الحياة الصحيحة، دون إهمال العاطفة أو الإعراض عنها. فأشكرك على افكارك وابداعك وعقلك الّذي لا تحرمينا من نتاجه وتكرمي على عقولنا بأطيب الثمار. وأخيرًا، باعتقادي هذا الكتاب كالسحر – بالمفهوم الإيجابيّ – لعلّ التعويذة فيه تعمّر بيوتًا وترقّي مجتمعات بأكملها! لكن حذار! فهو لن يحقّق تأثيره على أكمل وجه إذا وقع بين يدي الزوجة فحسب، بل ستكون تعويذته سارية المفعول بالتّمام والكمال فقط إذا وقع بين يدي الزوج وقرأه هو الآخر..
احترامي ومودّتي نور حبيش.