“سمائية البوعزيزي” للأستاذ المحامي سعيد نفاع// د. بطرس دلة

1

تحمل الفكر التقدّمي النقدي وتصلح للقراءة في كلّ زمان ومكان

هذه المجموعة من القصص القصيرة و”الحكايا” هي الرابعة التي يصدرها الاستاذ المحامي سعيد نفاع، وتحوي ثماني قصص حديثة الكتابة نسبيّا، وأربع من دفاتر الكاتب القديمة تعود إلى سبعينيّات القرن الماضي، أما لماذا اختار الكاتب أن يجعل من كل مجموعة “ثُمانيّة” فهذا لغرض في نفسه لم أفهمه.

تسمية المجموعة:

سمائيّة البوعْزيزي مع تسكين العين لأنه هكذا يلفظ التونسيون اسم البطل بوعزيزي الذي أحرق نفسه احتجاجا على الظلم الذي عانى منه كما بقيّة أبناء الشعب التونسيّ سنوات طويلة، وكما هو معروف كان لعمله هذا أثر في اندلاع الثورة التونسيّة وما سمّي فيما بعد ربيع الشعوب العربيّة.

يتخيّل الاستاذ الكاتب أن البوعزيزي بعد موته صعد إلى السماء وجرت له محاكمة سماوية للبت في مصير روحه  كونها جاءت السماء انتحارا، وطبقا لما جاء في الكتب السماويّة عن الانتحار ورغم ما جاء فقد قررت المحكمة تبرئته وصدر الحكم بإدخال روحه الجنّة.

الكاتب يتناول قضيّة الانتحار وتعامل أهل الأرض معها ومع المنتحر انطلاقا من النصوص المختلفة في الديانات المختلفة والمُجمع فيها أن الانتحار معصيّة، إلا أنه يصل إلى أن محكمة السماء برّأت البوعزيزي رغم كلّ ذلك اعتمادا على أسباب انتحاره وبعد تدخّل سيّد قضاة السماء.  ويكتب الكاتب: “ودخلت روح محمد بوعزيزي الجنة من أوسع أبوابها، وتأكد أهل تونس من ذلك وتأكدوا من قبول تضرعهم حينما استفاقت في ثناياهم جارية في عروقهم أرادة الحياة”.

أما نسبة المحكمة إلى السماء في تسمية المجموعة فنحن نعتقد أنه كان من الأفضل أن يكتب سماويّة بدلا من سمائيّة في حالة الإضافة والنسب هذه، مع أن إبقاء الهمزة ليس خطأ إلا أن الواو أسهل كثيرا في اللفظ من الهمزة. فنقول سماويّة بدلا من سمائيّة ! فاسم السماء يرمز إلى السمو والارتفاع تسمح العودة إليها في النسب !

المقدمة أو البديل عنها:

في تقديمه لهذه المجموعة وتحت عنوان ” النقاد الأوائل (كاتبو المقدمات) بين الإفراط والتفريط”،  يوجه الاستاذ سعيد نقدا للكتاب كاتبي مقدّمات الكتب الذين يشبعون المنتِج والمنتَج مدحا رغم كثرة الأخطاء اللغويّة وحتى الإملائيّة، ويأتي الكاتب بمثال: أحدى الروايات التي صدرت في الفترة الأخيرة مقدّما لها أحد النقاد الذي راجع النص حسب مقدمته إلا أن النص خرج بعشرات كثيرة من الأخطاء اللغوية (غير الشائعة) وحتى الأخطاء الإملائيّة، فيخلص نفاع إلى القول: “أيها المقدمون… اتقوا قدسيّة الكلمة فالأمانة التي تُحمّلون كبيرة فاحفظوا هذه الأمانة وأكثر كثيرا من النقاد!”.

نؤمن أن ما قدّمه الاستاذ سعيد كان سليما وضروريّا ولتكن في ذلك عبرة لمن يعتبر.

والحقيقة أن الكثيرين من كتابنا الناشئين يسارعون إلى نشر إبداعهم دون تدقيق لغوي سليم كما أن بعض المدققين اللغويين لا يراجعون المادة ولا يصلحون الأخطاء لا اللغوية ولا المطبعية  فتأتي اللغة مشوّهة ومخطوءة ولا تصلح للنشر مطلقا، هكذا وصلتني عشرات المواد في السنوات الفائتة ونصحت أصحابها بعدم طباعتها إلا بعد التدقيق اللغوي.

وقد قمت بتدقيق عشرات الكتب قبل طباعتها ونصحت أصحابها بالاهتمام بدقة ما أصلحت إلا أن البعض تمسك بلغته على الرغم من الأخطاء الكثيرة وأصدروا كتبهم التي لا تصلح للنشر. ولكن كان هنالك من المبدعين الذين التزموا بالتدقيق اللغوي فجاءت كتبهم سليمة من الأخطاء.

وهنا يجب توجيه اللوم إلى دور النشر التي لا تهتم بعرض كل المواد التي تصلهم على مدققين لغويين قبل الطباعة لأن في عدم التدقيق إساءة إلى لغتنا العربية وعدم احترام لجمهور القراء لدينا.

و”لا بدّ للحسناء من ذامّ” … بعد مراجعة هذه المجموعة وجدت فيها بعض الأخطاء اللغوية والمطبعيّة، فعلى الرغم من أن صديقنا الاستاذ المحامي سعيد نفاع قد نبه فيما يشبه المقدمة إلى أهمية مراجعة كل مادة قبل الطباعة إلا أنه وقع فيما حذّر منه.

القصّة الأولى سمائيّة البوعْزيزي:

عنوان هذه المجموعة هو جزء من عنوان هذه القصّة : “محاكمة سيدي بو زيد – سمائية البوعزيزي”، والسؤال الذي  يطرح نفسه من البداية: هل كان محمد بوعزيزي متسرعا في قراره بإحراق  نفسه أم كان عليه أن يناضل من أجل مبادئه السامية قبل أن يتهم بتهمة القتل المتعمّد؟

هنا يدخل المؤلف في حوار فيه الكثير من التّناص والاستشهادات بما جاء في الكتب السماوية وبآراء بعض رجال الدين من المشايخ والقسس والخورة وغيرهم، ومنهم من يقولون أن قتيل يده لا يستحق الرحمة ولذلك يرفض تقديم الصلاة على روح المنتحر لأن حياة الإنسان ليست ملكا له بل هو حصل عليها من الله سبحانه وتعالى ولا يحق له قتل نفسه.

والسمائيّة\ السماويّة هنا هي المحكمة الإلهية التي كان على محمد البوعزيزي أن يمثل أمامها بعد انتحاره حرقا وهذه المحكمة كان عليها اتخاذ القرار، وكان القرار الذي توصلت إليه المحكمة، حسب رأي المؤلف، تبرئة البوعزيزي من تهمة القتل ودخوله الجنة لأن انتحاره كان لرفع ظلم.

إن إدخال محمد البوعزيزي الجنة يذكرنا بقضية صلب السيد المسيح، فقد رضي السيد المسيح ان يذوق الصلب على الصليب كي يكون كبش الفداء لجميع المؤمنين الذين يطلبون الخلاص لأن الله أرسل ابنه الوحيد الذي تجسد بالروح القدس ومن مريم العذراء تأنس وصلب عنا على ما في الكتب وتألم ومات وصعد إلى السماء وجلس على يمين الآب. هكذا اذا كان رضاه ان يصلب كمن أحرق نفسه من أجل الآخرين. ومحمد البوعزيزي عندما احرق نفسه كان ذلك ثورة واحتجاجا على الحكومات الظالمة فكان لهذا العمل أثر في تفجير ثورات الشعوب في العالم العربيّ، ومع أن هذه الثورات لم تصل حتى الآن إلى تحقيق أهدافها في تحقيق الحرية والديموقراطيّة في العالم العربي إلا إن ما قام به محمد البوعزيزي كان محركا للعالم العربي كي يسير في الاتجاه الصحيح نحو النظام الديموقراطي الذي سيقضي على معاناة الشعوب.

أسلوب الكتابة لدى الاستاذ سعيد نفاع:

من قرأ مجموعاته السابقة وقرأ هذه المجموعة لا بدّ إلا أن يلاحظ كيف ينتقل المؤلف في كل قصة بشكل لبق فلا ينسى بعض التفاصيل التي تزيد القاريء تشويقا إلى أن يأتي على آخرها فيتمتع بالتخريج منها أية متعة. فالكاتب إلى كونه محاميا وقد واجهته عشرات القصص والقضايا في مختلف مستويات المحاكم لديه من الاطلاع الشيء الكثير. وهو بهذا الكم الرائع من القضايا انما يعيد إلى أذهاننا ما كان الكاتب المصري الكبير توفيق الحكيم قد كتبه في كتابه الشهير “يوميات نائب في الأرياف” وذلك بعد أن قضى ردحا من الزمن يعمل كنائب في المحاكم في الريف المصري. فجاءت قصصه شهادات واقعيّة على مدى الظلم الذي كان الفلاح المصري يعاني منه.

والاستاذ المحامي سعيد نفاع في هذه المجموعة وفي المجموعات السابقة انما ينحو نحو الحكيم في دفاعه عن المظلومين وبتواضع واضح ولكن بأسلوب مشوّق للغاية. وهو من خلال ذلك لا ينسى أن ينقل لنا شيئا من الحياة القروية التي عاشها منذ مولده في قرية بيت جن وهي من كبرى القرى الدرزية في إسرائيل. هكذا نجده يتحدث عن “اللِّحْيَة” التي يسمونها الكريمة ويروي بعض أبيات من الشعر حول الموضوع ولكن من نظمه هو ولا ينسى ومن أجل الزيادة في عنصر التشويق أن يتخذ أحد الشباب واسمه راشد ليجعل منه بطلا يدافع عن كريمة جده قبل أن يعتدي عليها عسكر الحاكم خلال ثورة 1936.

هكذا تجد أن عددا من قصص هذه المجموعة مأخوذة من حياة الواقع الذي يعيشه المؤلف ولذلك فهي قريبة من مفاهيم جمهور القراء. ونحن نعرف أنه كلما كانت القصة قريبة من الواقع الذي نعيشه كلما كانت أقوى وأفضل لأن تصوير الواقع أسهل من التخيّل ! علاوة على أن الحديث عن الواقع فيه هدف بعيد هو إصلاح هذا الواقع لتكون الحياة فيه أفضل وأكثر متعة !

يضاف إلى ما ذكرنا أن عزيزنا الاستاذ سعيد يعرف كيف يستعمل بعض المصطلحات اللغوية حتى العاميّة يرصع بها نصوصه فتأتي قريبة من القلب فيها الكثير من خفّة الظلّ ! هكذا وجدناه يعنون إحدى قصصه بكلمة “التشذوب”… أي “الكذوب” ! ويلجأ إلى اللغة العامية على لسان أبطاله وهي أفضل في نقل الحديث المقتبس بدقة من قائله ! هكذا يلجأ إلى مصطلح دارج في قصة “الكذوب”، حيث يقول وطبقت الدولة في حصة ابن عم موكلي الغائب ! (ص 26)، أي أن الدولة استولت على حصة الغائب بموجب القانون الجائر قانون “الحاضر الغائب” الذي بموجبه استولت الدولة على آلاف الدنمات لمواطنين يعيشون في اسرائيل ولكنهم يعتبرون غائبين !

وهنا يجب ألا يفوتنا أن صديقنا المؤلف يلجأ في بعض القصص إلى المحسنات اللفظية كما في قصة “أفروديت لم تسحق روحي” حيث يقول في ص 47 ما يلي:

“كانت السماء زرقاء صافية كيوم مولد افروديت، والبحر هادئا لا تكاد تسمع قبلات أمواجه للرمال وصخرتي أفروديت…” هنا يلجأ للاستعارة من حيث التشبيه حيث استعار كلمة قبلات ليشبه امواج البحر بالإنسان الذي يقبل الرمال وصخرتي أفروديت.

وفي الصفحة التالية 48 يعود إلى نفس الاستعارة والتشبيه بقوله:

” أراحني من إمعان النظر إلى حالهم، أن هبّ النسيم يحملني وعاد ليقبل شعر أفروديت المنشور فوق الصدر والخصر وقبل أن تسحق قلبي وروحي حطّت الطائرة على مدرج المطار” !

ينهي حكايته عن أفروديت بعد أن جلب خالد بن الوليد وصلاح الدين والمختار والأطرش والقسام وجمال الدين الأفغاني وابن رشد وابن سينا والفارابي والمعري وأبا فراس ليعفروا رؤوسهم بالتراب يبكون في موطن الآلهة… أعتقد أن الكاتب بلفتة ذكيّة رمزيّة أراد أن يقول لنا أن هؤلاء يبكون في موطنهم العلوي المصير الذي آلت إليه أحوال أمتهم اليوم !

يُضاف إلى كل ما ذكرت أن المؤلف يخلع بعض المصطلحات كما يشاء، ففي قصته “مشمشتنا الشاميّة” ص54 يخلع مصطلح “احتُفَّلونا” أي فرضوا علينا أن نحتفل ويضيف في الصفحة التالية مصطلح ” واحتُفَّلنا” بالانتصار !

لغة النقد في القصص:

يستعرض مؤلف هذه المجموعة عددا لا بأس به من انتقاداته لما يؤمن به أهالي قرانا من خرافات وحكايا قديمة كانت قد تأصلت في مجتمع القرية، كل قرية، وبأسلوب تهكمي ساتيري شأنه قي ذلك شأن كل كتاب الساتيرا، فيهاجم الإيمان بالخرافات والإيمان بالرقوات وبالجن والعفاريت وما إلى ذلك في نقد لاذع أحيانا ومضحك أحيانا أخرى والمهم عنده أن يوصل الفكرة السديدة إلى جمهور قرائه بغض النظر عن ثقافتهم ومدى تقبلهم لهذه الخزعبلات والخرافات.

هكذا يهزأ من رقوة أحد الشيوخ للمشمشة الشاميّة التي دخلها “أبو هارون” وهو الدودة التي تدخل جذوع الأشجار فتميتها ويصل إلى نتيجة أنه بالرغم من الرقوة فقد ماتت شجرة المشمش على الرغم من كبرها ومحبتهم لها.

الأرض وفقراء الناس:     

ومن باب الذكريات الأليمة والتندّر على حياة فقراء الناس وهم كثر يروي لنا المؤلف قصته مع دراجة زميله رياض الذي كان “أتيس” ولد في المدرسة ولكن جيوبه كانت دائما مليئة بقطع النقود بينما كان هو محروما منها مع أنه كان الأقوى جسدا والأكثر ذكاء ! إلا أن هاتين الميزتين لم تشفعا له بين أترابه ليفرض نفسه في ساحة اللعب.

أما قصة “جاي يا غلمان جاي” ص 79 فهي أجمل قصص هذه المجموعة لما فيها من استعادة لحياة الناس الفقراء أيام زمان أو أيام ما بين زمان واليوم، ففيها الكثير من البطولة دفاعا عن الأرض من جهة وعن الممتلكات التي كان ينهبها ذوو الباع الطويلة المسلحون الذين أطلقوا النار على الراعي أبي نايف وعلى كلبيه وعلى بعض رؤوس الغنم والماعز واستعانوا بالكلاب الشرسة من أجل سرقة قطيع القرية الذي كان تحت حراسة الراعي أبي نايف وتهب القرية عن بكرة أبيها بعد نداء “جاي يا غلمان جاي”  وهو نداء طلب العون من الأهالي وكان دارجا أيام زمان، انه يثير النخوة في كل من لديه شيء من النخوة ومساعدة الآخرين للدلالة على أن سكان كل قرية لديهم محبة خاصّة لبعضهم فهم يشاركون بعضهم في الأفراح والأتراح وعند الحاجة بالرغم من وجود بعض المشاحنات بين البعض، إلا انهم وعند الحاجة ينسون خلافاتهم ويتحدون في وجه المعتدي الغريب!

أخيرا: إن في هذه المجموعة الكثير من الفكر التقدّمي النقدي وجمال السردوعناصر التشويق وأعتقد أن قراءتها ستصلح في كل زمان ومكان. فيا أيها الصديق المحامي الاستاذ سعيد نفاع لك أقول: لك الحياة !

د. بطرس دلّة

كفر ياسيف أواخر تموز 2014

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .