زيارة الرّئيس الأمريكي بايدن للمنطقة لم تأت من فراغ، وتصريحات بايدن تؤكّد من جديد انحياز الولايات المتّحدة الأمريكيّة لإسرائيل في الأحوال كلّها، وإذا قال الرّئيس السّابق ترامب أثناء رئاسته بأنّه سيفوز بالانتخابات الإسرائيليّة لو ترشّح لها، فإنّ بايدن قال وهو في طريقه لإسرائيل” صحيح أنّني لست يهوديّا لكنّني صهيونيّ”.
وتندرج زيارة بايدن ضمن محاولات أمريكا البائسة لاستعادة مكانتها الدّوليّة بعد إشعالها الحرب الكونيّة الثّالثة على الأراضي الأوكرانيّة، التي ستنتهي بظهور نظام دولّ جديد، وظهور قوى اقتصادية عملاقة ستحجّم الدّور الأمريكيّ، بل ستتفوّق عليه، وفي هذه الزّيارة ظهر جليّا الكذب الذي مارسته الأنظمة ذات العلاقة، فالهدف الأوّل ليس دمج إسرائيل في المنطقة كما زعموا، بل تتويج إسرائيل كقوّة وحيدة تسود المنطقة لحماية المصالح الإمبرياليّة، نيابة عن أمريكا التي يتراجع نفوذها بشكل جليّ، فقادة إسرائيل لم يروا يوما أنّهم ودولتهم جزء من الشّرق الأوسط، بل يرون أنفسهم جزءا من العالم الغربيّ، ومن أهداف الزّيارة أيضا هو إيجاد بديل خليجيّ للنّفط والغاز الرّوسي.
وبايدن لم يقدّم أيّ حلول للقضيّة الفلسطينيّة إلا أحاديث من باب العلاقات العامّة، كتصريحه عن حلّ الدّولتين” لكن تحقيق إقامة الدّولة الفلسطينيّة بعيد المنال”! وحتّى لم يتطرّق لإعادة فتح القنصليّة الأمريكيّة في القدس الشّرقيّة كما وعد سابقا.
لكن والحقّ يقال فإنّ الرّجل وكما هي السّياسة الأمريكيّة المعتادة قد نجح وبطريقة التفافيّة في حرف الصّراع بين العرب وإسرائيل، وإيجاد عدوّ وهميّ بديل، هو ايران، وتجنيد أنظمة عربية متحالفة مع اسرائيل لمحاربته.
ومجمل السّياسة الأمريكيّة ينصبّ حول تطبيق المشروع الأمريكي” الشّرق الأوسط الجديد”، الرّامي إلى إعادة تقسيم الشّرق الأوسط إلى دويلات طائفيّة متناحرة، وتصفية القضيّة الفلسطينيّة لصالح المشروع الصّهيونيّ التّوسّعيّ. ويخطئ من يظنّ أن “صفقة قرن ترامب نتنياهو” قد دفنت، فتطبيقها جارٍ على قدم وساق بمشاركة أنظمة عربيّة متصهينة، ومن خلال مواصلة مصادرة الأرض العربية المحتلة المتسارع، وفرض وقائع استيطانية عليها ستجعل إقامة دولة فلسطينيّة أمرا خياليّا، ولن يحصل الشّعب الفلسطينيّ إلا على إدارة مدنيّة على السّكّان وليس على الأرض، مع دعم اقتصادي يمكنهم من العيش. وبعد “صفقة ترامب نتنياهو” جاءت ما يسمّى “اتّفاقات أبراهام أو إبراهيم”، فهل انتبه عربان أمريكا المتهافتون على التّطبيع المجّانيّ لهذه التّسمية التي لم تكن عفويّة أبدا، وهل أدركوا أنّها تحمل في طيّاتها بعدا توراتيّا يتمثل بالسّلام المزعوم بين” أبناء إبراهيم وزوجته السّيدة سارة، وبين أبنائه من جاريته هاجر”! أي سلام السّادة مع العبيد. تماما مثلما حصل في مؤتمر مدريد عام 1991، فلم يكن اختيار مدريد لهذا المؤتمر عفويّا، بل جاء كتذكير للعرب بخروجهم من الأندلس “اسبانيا” قبل 500 سنة عام 1592م، وسيخرجون من فلسطين بالطّريقة نفسها! وإذا كان أصحاب القرار العرب لا يعرفون التّاريخ فإنّ الطّرف الآخر ليس كذلك.
لكنّ اللافت أنّ أنظمة العبيد تواصل خداع شعوبها، فبعضها غارق في التّطبيع وينفي ذلك، فهل فَتْح المجال الجوّيّ والتّحالفات الأمنيّة والعسكريّة تطبيع أم لا؟ وهل تساءلت الشّعوب العربيّة عن أسباب عدم تطبيق أيّ شيء من “مبادرة السّلام العربيّة”؟ وعن عدم تقديم إسرائيل أيّ تنازلات في أطماعها التّوسّعيّة؟ أو ليست سياسة التّنازلات السّرّيّة المجّانية تقف وراء ذلك؟ وهل انتبهت الشّعوب العربيّة أنّ التّحالفات الأمنية والعسكريّة بين أنظمة عربيّة وإسرائيل تأتي كبديل لاتّفاقات الدّفاع العربيّ المشترك التي قضى عليها أنور السّادات بعد حرب أكتوبر 1973. وأنّ هذه التّحالفات قديمة جديدة اتّخذت الطابع العلنيّ في المرحلة الأخيرة، وقد تجسّدت في احتلال العراق وتدميره عام 2003، وفي الحرب على سوريّا ولبنان وليبيا منذ ما يزيد على عقد من الزّمن، وفي الحرب على اليمن منذ العام 2015، وفي حرب العشريّة السّوداء على الجزائر بين 1992-2002، وفي تقسيم السّودان عام 2006. ويبلغ الكذب والتّضليل مداه عندما يطبّلون بأنّ قراراتهم سياديّة! فهل أصبحت الخيانة عقيدة، ولم تعد وجهة نظر كما خشي ذلك عام 1974 الشّهيد صلاح خلف؟
19-7-2022