كتابات الحاضر بذكريات الماضي
ما زال الفلسطيني يحتفظ بذكرياته الحزينة التي قد تغفو قليلاً، ولكنها لا تموت أبداً، وينبش في أوراق النكبة والنكسة، وفي الرواية العاشرة للدكتور صافي صافي تحت عنوان “زرعين”، طرح صافي قضية وجع النكبة واللجوء وحلم العودة، من خلال اصطحابنا في مسار في الطبيعة الفلسطينية، إلى مجموعة من القرى التي سلبها الاحتلال من أهلها، ابتداءً من بيت حنينا إلى عمواس، الخضيرة، زرعين، عين جالوت، ثم جبال فقوعه إلى بيسان، إذ دارت أحداث الرواية كلها في هذا المسار، فلم يكن مجرد مسار عادي بل كانت رحلة محفوفة بالمخاطر.
ولا بد من ذكر أن قرية “زرعين” الواقعة قضاء جنين، من القرى الفلسطينية، التي هدمها الصهاينة وهجروا أهلها عام 1948، وعلى أنقاضها أقيمت مستعمرة سميت بِ “يزراعيل”، ومعناها المرج الواسع.
قابلت الكاتب صافي في مقر الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين الواقع في رام الله/البالوع وبحوزتي العديد من الأسئلة حول رواية “زرعين”، بدأنا الحديث حول ما إذا كانت الرواية واقعية أم خيالية؟ فقال إنها كانت دمج بين الواقع والخيال، فالمسار الذي تمحورت الرواية حوله كان واقعي وقد عايشه الكاتب، وأيضاً ضياع أربعة من أعضاء الفريق كان حقيقاً، أما باقي الرواية فقد كانت خيالية، ورغم وجود جزء من واقع الرحلة إلى أنها لم تكن توثيق للرحلة الحقيقة، لأن ذلك في الكتابة الروائية يعتبر وجهة نظر وليس توثيق، فالحياة لا يمكن توثيقها، وكونها اتسمت الرواية بالدمج بين الخيال والواقع. سألته ما إذا كان هناك ارتباط بينه وبين صفات الشخوص اللذين ضمتهم الرواية؟ فكان رده أنها ليست بصفات حقيقية، وإنما وجهة نظره من الشخصيات لتحقيق أهدافه من الرواية.
لم يكن لرواية “زرعين” بطل واحد، فقد شعرت بأن الرواية جمعت بين البطل كونه شخص، الذي تمثل بشخصية حنان زميلة وحبيبة قديمة للراوي. أيضاً كان البطل مكان والذي تمثل في قرية زرعين، فما هي طبيعة علاقة صافي بالأبطال؟ انفعالاً على هذا السؤال أجاب صافي ليس هناك مكان دون إنسان، واعتبر أن ثقافة الانسان تصنع ثقافة المكان، علاقته بزرعين كانت نتيجة زيارته لها وإعجابه بها، أما حنان فقال إنه ليس المهم ما إذا كان هناك علاقة حقيقة مع حنان، وإنما المهم أن تكتمل الرواية كاللوحة الفنية.
اتسمت لغة الرواية بالعامية إضافة لوجود بعض الكلمات الفلاحية، فنحن قد وصلنا الى أن غالبية الأجيال الصاعدة تتجه نحو اللغة المدينية، فما سبب اختيار صافي لهذه اللغة؟ رد على هذا بالقول إنه يستخدم اللغة العامية الفلسطينية الوسيطة، لتكون أقرب للإنسان، ولكي تعطي نكهة أن هذه الرواية فلسطينية.
بعد نقاش بيننا حول اختيار الأسماء وسببها، كان لافتاً في الرواية بأن الراوي دون اسم، فما السبب الذي دفع صافي ليجعل نفسه دون اسم، وما الهدف من ذلك؟
بعد نقاش بيننا حول اختيار الأسماء وسببها لم يرغب صافي بجعل الراوي ذو اسم لإعطاء الحرية بالكتابة دون التقييد باسم معين، إذ أن الراوي قد يكون أي شخص وصفاته قد تنطبق على أي أحد.
بالعادة تتجلى الحبكة في الروايات بعقدة واحده، هنا في رواية زرعين لم تكن القعدة واحده، وإنما حسبما شعرت أن هناك أكثر من عقدة، لعل تصرف جمال باستدعاء الشرطة الإسرائيلية للنجدة، وما تبعه من خوف وقلق لباقي الأصدقاء حتى النهاية بتصرف الشرطة معهم، وكانت ذروة الحبكة عندما استطاع أبو ماهر الوفاء بوصية والده بدفنه في مسقط رأسه، وقد يشعر قارئ أخر بوجود حبكات أخرى، فهذا التحليل أخذ بنا لنقاش حول كيف استطاع أن يكتب الرواية بمجموعة من الحبكات دون أن تكون الرواية معقدة أو مشتِتَة، وتبقى جاذبة في الوقت نفسه؟
“هذه هي الكتابة الإبداعية، هذا هو الفن” بهذه المقولة عبر صافي عن إجابته بعد شكره على هذه الملاحظات، ويرى أن معرفة العقدة في الرواية عبارة عن وجهة نظر القارئ، وقد تختلف من قارئ لأخر، ثم أضاف إنه عمل جيداً لصنع هذه الحبكات ووضع الحل لبعض العقد فليس من الضروري حل العقد كلها.
اتصفت رواية زرعين بالطابع التراثي، تاريخي، وطني، أما الروايات السابقة لصافي لم تتصف بذات الطابع، تحت أي نوع صنف الكاتب صافي روايته؟
تعقيباً على هذا التساؤل علق صافي بالقول أن التصنيف ليس مفيداً دائما، فهو لا يؤمن بالتصنيف، فهو لا يكتب رواية تاريخية رغم أنه كتب جزءً منها، ولا يكتب توثيق، ولا أدب رحلات، وأضاف أن هناك نظرة جديدة في الكتابة لأنواع الكتابة الروائية إذ يتحدث عن الحداثة وما بعد الحداثة بمعنى أن يكون القارئ شريك في العمل الأدبي، ثم كرر إنه لا يؤمن بالتصنيف وهو يترك كل رواية تتحدث عن نفسها كما تشاء، وبالنهاية ليس المهم ما نوع الرواية، وإنما ماذا تقدم للقارئ، فتصنيف الروايات يقتل العمل، المهم التركيز على الجانب الإنساني للحياة، هل يقتل الفكر أم يثيره؟ وهل تثير التفكير الناقد؟ فهو يركز على هذا النوع من الأعمال.
ظهرت الطبيعة بشكل واضح وكأن هناك علاقة للكاتب بالطبيعة، كما أنها لم تكن مجرد ذكر عابر بل وكأنها تحمل في طياتها معاني تدل على معاناة الشعب الفلسطيني واللاجئين، كاستخدام البلبل الهندي بصفاته التي قد تدل على الاحتلال الإسرائيلي، وتحدثه عن شجرة بلوط تحيط بها مجموعة من أشجار الصبار لحمايتها وكأنه يمثل حمايتنا لفلسطين بكل ما فيها أو محاولة حمايتنا لما هو مقدس في فلسطين كالمسجد الأقصى، وغيرها من الأشياء الطبيعية، الى أي مدى هذه المعاني قد تكون صحيحة بارتباطها بقضيتنا؟
كل ما اختاره صافي من الطبيعة من حيوانات أو نباتات هي فعلياً موجودة في هذه المناطق، وموجودة بصفاتها التي ذكرها، ثم قال إن هناك أشياء قام بكتابتها بتلقائية، بفطرتها، بعفويتها كما هي، وكان لها معنى كبير مثل شجرة البلوط بمعناها الذي ذكرته في طرحي للسؤال، ومنهم من فسرها بمعاني أخرى، وذلك لقدسية شجرة البلوط وما تتصف به من مميزات كونها نبته.
ثم شبه الكتابة بالتصوير، عند التقاط صورة نأخذها من الزاوية التي نراها جميلة، وكذلك الكتابة يكتب كل كاتب من الزاوية التي يراها أجمل ومناسبة له، رغم ذلك اتفق صافي بأن ما تم ذكره من الطبيعة يحمل معاني، ولكن ليس بالضرورة أن يحمل كل شيء رمزا ويجب تحليله.
في ختامي للرواية، لاحظت بأن الرواية جُعلت نهايتها مفتوحة، باتفاق بين الحاج إبراهيم والراوي بالخروج في مسار أخر الى بيسان، فكان لا بد من نقاش هذه الخاتمة مع الكاتب ما إذا كان هناك جزء أخر مكمل ل زرعين؟
بابتسامة عريضة أجاب صافي “أنا تميزت كتاباتي بالحديث عن الأماكن في أراضي ال 48 فهذا هو المكان الذي يشغلني” ثم أضاف بأن العديد من الجمهور اللذين قرأوا الرواية طالبوا بجزء آخر، يحمل في داخله حنان والرحلة الى بيسان، كما قال إن هناك العديد من الاتجاهات التي يمكن الكتابة من خلالها بطرح مجموعة من التساؤلات، هل تعود حنان الى بيسان؟ هل عودة حنان الى بيسان توازي عودة علاقة عاطفية بين الراوي وحنان؟ هل تعود حنان الى بيسان سائحة أما تعود وبيسان محررة؟ أسئلة عديد قد تتخاطر للذهن، وبالختام قال: إن شاء الله إن أتيحت لي الفرصة سأكتب الجزء الأخر من زرعين.
*مقابلة تعليمية لمساق الصحافة الثقافية في جامعة بيرزيت للطالبة ميادة بدر