اسكندر عمل
مقدِّمة
“حيفا بصمة حمراء” هو جديد انتاج المؤرِّخ والاستاذ اسكندر عمل، جديدٌ يضيف لمكتبتنا الوطنيَّة، إرثًا تاريخيًّا وثراءً نوعيًّا، ومرجعًا يوضع في كِنانة الشَّباب عن الذين وُلِدوا ليعلِّمونهم “أنَّ الحياة كفاح” وعن الذين وُلِدوا ليصونوا “تراب الوطن” وعن الذين أنِسَت الأرض تحت أقدامهم وأنِسَت المنافي لشجون سمرهم ولحديثهم الشَّجيِّ، إذ علا صفوُهم وأصبحوا صفوة الرَّجال بعد أن رسب ثفل الذين تركوا القافلة تسير..
لقد نشأت الفكرة في قلبه وهتَف فكْرُهُ ليبدأ في التَّدوين، بعد أن هدَف بفكرته في الكتابة عن حيفا، ليكون حديثه من القلب إلى القلب، كي تبقى حيفا في الفؤاد، وتخليدًا لباني “حيفا الجديدة” ظاهر العُمر الزَّيدانيِّ، واحتفالاً بميلادها، القرنين ونصف على شواطئ جبال الكرمل الغربيَّة، غربيِّ بلاد الشَّام، وكتب استاذنا في مقدمة دراسته “مئتان وخمسون شمعة لحيفا”: قبل مائتين وخمسين عامًا بنى ظاهر العمر الزّيدانيُّ حيفا الجديدة، بعد هدمه لحيفا القديمة وأحاطها بسور له بوَّابتان، وأقام قلعة على نتوء صخريٍّ يشرف على المدينة من الناحية الجنوبيَّة وبرجًا في أعلاها. وبدأت حيفا بالتَّطوُّر”.
لقد منح الزَّيدانيُّ اسم “حيفا الجديدة” على المدينة “بعد هدمه لحيفا القديمة (منطقة دير الرَّاهبات الكرمليَّات على الشَّاطئ، ومستشفى حمزة والمستوطنة الجديدة بات غاليم اليوم خ.ت.)، التي لم تكن آمنةً” وقرَّر نقلها وبناءها داخل أسوار ببوَّابتين شرقيَّة وغربيَّة ولها برج يراقب الحركة البرِّيَّة والبحريَّة، حيث “كان مركزها منطقة ساحة الخمرة (ساحة الحناطير) حتّى الجامع الصّغير” الذي يُسمَّى أيضًا بجامع ظاهر العُمر..
ويكتب، لنا أيضًا، عن “حيفا تحت حكم الجزَّار ووريثيْه” و”حيفا بعد الاحتلال المصريِّ” وكيف “حيفا تنطلق خارج الأسوار” وكذلك بناء سكَّة الحديد الحجازيَّة “سكَّة حديد درعا-حيفا”، وعن حيفا تحت الاحتلال البريطانيِّ، ومن بعدها نكبة
شعبنا.
ولا يستوي الحديث عن تاريخ حيفا دون أن يُذكر الشَّيخ المجاهد والشَّهيد عزِّ الدَّين القسَّام، إمام وخطيب جامع الاستقلال في حيفا، ومأذون حيفا الشَّرعيُّ والأستاذ في المدرسة الإسلاميَّة التَّابعة للجمعيَّة الإسلاميَّة قسم الذُّكور “حيث أحدث قفزةً نوعيًّةً
في النِّضال ضدَّ المستعمرين الإنكليز، وضدَّ الهجرة الصَّهيونيَّة إلى فلسطين، حيث وصل إلى قناعة..أنَّ الثَّورة المسلَّحة هي الوسيلة الوحيدة الكفيلة والقادرة على إنهاء الانتداب والحيلولة دون قيام دولة يهوديَّة في فلسطين، وكانت حوادث البُراق في أيلول 1928 قد دفعت الشَّيخ ورفاقه إلى الانتقال من مرحلة الدَّعوة والإعداد النَّفسيِّ إلى مرحلة العمل..”.
ويضيف لنا، استاذنا ابو السَّعيد، فصلاً عن صحافة حيفا، ويُعطينا عيِّنة منها، مثلاً “النَّفائس العصريَّة”، حيث “صدر العدد الأول من هذه المجلَّة الأدبيَّة في الأوَّل من تشرين الأوَّل 1908 باسم “النَّفائس” وكانت مجلَّة أسبوعيَّة فكاهيَّة أدبيَّة، أنشأها خليل بيدس وطُبعت في المطبعة الوطنيَّة في حيفا”. وقد ساهمت في نشر الأدب العالميِّ وتوعية جماهيرنا العربيَّة ضدَّ الاستعمار والحركة الصَّهيونيَّة، “في فترة الانتداب هاجم بيدس من على صفحات مجلَّته وعد بلفور وطالب بالغائه، وقاد مظاهرة جبَّارة عام 1920 بمناسبة عيد النَّبي موسى، فلاحقته سلطات الانتداب ومَثُل للقضاء وحُكِم عليه بالإعدام وخفِّف الحكم الى خمسة عشر عامًا، قضى منها أربعة أشهر في سجن عكَّا، ثم أفرج عنه مع جملة السُّجناء الذين عفا عنهم هربرت صموئيل المندوب السَّاميُّ في فلسطين”. وينتقل بنا بعدها إلى صحيفة “الكرمل” لصاحبها ” نجيب نصّار” شيخ الصَّحافة الفلسطينيَّة.. وكانت من أبرز منابر فلسطين الفكريَّة والسِّياسيَّة”.
يضع الاستاذ والمؤرِّخ اسكندر عمل بين أيدينا كتابًا فريدًا من نوعه ومُميَّزًا في سرده لتأريخ لم يكتبه أحدٌ من قبل، حيث يحدِّثنا فيه عن حقبةٍ صعبةٍ عاشها شعبنا العربيُّ الفلسطينيُّ، في حيفا، ما قبل سقوط المدينة وخلاله وما بعده، ويحكي لنا عن دور الحزب الشُّيوعيِّ في حيفا، في هذه الحقبة، وقصَّة الرَّفيقات والرِّفاق الشُّيوعيِّين الذين دأبوا، على قرع جدران الخزَّان ودقِّ ناقوس الخطر في جميع فترات وجود عروس البحر والكرمل تحت نير الاحتلال البريطانيِّ لفلسطين، ويتابع حديثه كتابةً عن صدور صحيفة “الإتِّحاد” النَّاطقة باسم الحزب (عصبة التَّحرُّر)، وعن نكبة شعبنا العربيِّ، وسقوط حيفا بين أيدي عصابات الهجناة والإيتسل الذين قاموا بطرد السُّكَّان العرب الآمنين من بيوتهم في جميع أماكن سكناهم في حيفا، حيِّ محطَّة الكرمل، وعبَّاس والحلِّيصة ووادي روشميا ووادي النِّسناس ومنطقة حارة الكنائس، والحيِّ الشَّرقي لحيفا (جامع الجرينة والاستقلال والصَّغير) والموارس في غرب المدينة، وتهجير العباد منها وإحكام الطَّوق عليهم ليكون لهم منفذ واحد للنُّزوح إلى مخيَّمات اللجوء داخل الوطن وخارجه، عبر البحر واليابسة، في خطَّة أسمَوها بالمقصِّ، بعد أن عاثوا في البلاد دمارًا وخرابًا وفي العباد إرهابًا وترهيبًا وتهجيرًا وقتلاً ومن بعدها نفَّذوا خطَّة بن غوريون في عملية “الشيكمونة” حيث “طُحِنت البيوت” بعد هدمها ومُنع أهلها من العودة إليها، وكان هذا تحت غطاء كامل لقوَّات الاستعمار البريطانيِّ البحريَّة والأرضيَّة، حيث بقيت في حيفا حتَّى أواخر شهر حزيران من عام النَّكبة، أي حتَّى بعد سقوط المدينة، لقد حدثت نكبة مدينتي على مرأى عيونهم، وعلى سمع آذانهم، وحتَّى بمشاركتهم ومراقبتهم، وذلك ليطمئنُّوا لوعدهم المشهور، أنَّ الخطَّة تُنفَّذُ كما يجب.
ويسرد فيها كذلك كيف قام رفاقنا الحيفيُّون الذين لا يهابون الرَّدى، في هذا الجوِّ الإرهابيِّ بتوزيع منشور العودة الدَّاعي أهل حيفا بعدم ترك البلد، والثَّبات في الوطن، يبدأ منشور رفاقنا بافتتاحيَّته: “إنَّ الكارثة المؤلمة التي حلَّت بكيان المجتمع العربيِّ في حيفا وقضائها، كارثة أرادها الاستعمار وسعى إليها جادًّا. هي من سلسلة مآسٍ رمى بها بلادنا منذ أن سعى إلى إلغاء ما أجمعَت عليه منظَّمة الأمم المتَّحدة من إنهاء الانتداب وجلاء الجيوش الأجنبيَّة”.
ويتابع النِّداء: ” إنَّ ذلك الاستعمار الذي ساعد القوَّات اليهوديَّة على احتلال حيفا وقضائها بمنعه عنها النَّجدات العربيَّة من الطِّيرة والقرى المجاورة، ويسيطر في الوقت نفسه على حركات الجيش الأردنيِّ وسكناته، لن يسمح لهذا الجيش باحتلال حيفا، التي مكَّن الوكالة اليهوديَّة منها”.
“إنَّ مصلحة عرب حيفا وعرب فلسطين تحتِّم على سكَّان حيفا العرب الرُّجوع إلى مدينتهم إلى أعمالهم ومصالحهم..يجب أن لا ننخدع بتصريحات المأجورين الذين يستفيدون من مآسي الشَّعب العربيِّ والأمَّة لتثبيت أقدامهم وأقدام المستعمرين. لن ينقذ فلسطين خُدَّام الاستعمار وعملاؤه بل نضال سكَّانها المباشر في سبيل تحطيم قوى الاستعمار لأجل الحرِّيَّة والاستقلال والجلاء”.
وقام رفاقنا بتحرير بيوت العرب التي استوطن فيها المهاجرون وسكنوها بأثاثها واستخدموا أدواتها المنزليَّة..
ويكتب عن نشوء الحركة العمَّاليَّة في حيفا، كونها مدينة ساحليَّة فيها الميناء البحريُّ وخطُّ سكَّة الحديد، وتنظيم العمَّال في تنظيمات عمَّاليَّة مقابل نقابة العمَّال العبريِّين (الهستدروت)، حتَّى لا يكونوا لقمة بين أنياب “المفترسين”.
لقد كانت حيفا مصدرًا للصُّمود والتَّحدِّي والتَّصدِّي للمخطَّطات الصَّهيونيَّة التي أرادت محو لُغتنا العربيَّة الأصيلة، بحسب مخطَّط بن غوريون، الذي اراد ان نكتب لغتنا العربيَّة بأحرف عبريَّة، إذ يكتب الاستاذ اسكندر “فقد كانت محاولات لطمس الهويَّة العربيَّة بأساليب مختلفة، لكنَّ الحزب الشُّيوعيَّ بصحفه ومجلاته “الاتِّحاد” و”الغد” و”الجديد” و”المهماز” التي صدرت في حيفا، كان مدرسة حمَت الهويَّة واللغة والأدب فخرَّجت أدباء وشعراء وكتَّاب ومؤرِّخين كتوفيق زيَّاد وإميل توما وإميل حبيبي ومحمود درويش وسميح القاسم وسميح صبَّاغ وغيرهم”.
وحتَّى يضمن حزبنا الشُّيوعيُّ لقمة العيش بشرف أقام “قوت الكادحين” ليَحميهم من منشار “السُّوق السَّوداء”، في زمن شراء المواد الغذائيَّة مقابل بطاقات تَموين من دائرة التَّموين..
وينتقل بنا المؤرِّخ عمل إلى محطَّة الرِّياضة البدنيَّة “من هنا نرى أنَّ الحزب والشَّبيبة لم يهتمَّا فقط بالتَّوجيه الفكريِّ لأعضائهما، بل بلياقتهم البدنيَّة أيضًا فالعقل السَّليم في الجسم السَّليم”، ومنها إلى محطِّة الفنِّ والموسيقى والغناء والرَّقص: “لأنَّ فقدان كل هذا يعني ذوبان الأقليَّة الفلسطينيَّة في مجتمع حاول فرض لغته وفنِّه وهويَّته عليها”. ويُعطينا في كتابه بضعة أناشيد كنَّا قد تعلَّمناها وحفظناها عن ظهر قلب، وحفظناها كما نحافظ على بؤبؤ العين، نشيد “ظلام يا ظلام، الحصاد، الشَّباب الدِّيمقراطيِّ العالميِّ وعليك منِّي السَّلام”، ويتابع قطاره التَّعليميُّ ليحُطُّنا في تأسيس حركة الشَّبيبة الشُّيوعيَّة وحركة أبناء الكادحين وإقامة روضة للأطفال لحركة النِّساء الدِّيمقراطيَّات، وهذا كان من أهمِّ ما بذله الحزب من تثقيف الأجيال النَّاشئة منذ نعومة أظفارها..
“قد يبدو غريبًا للوهلة الأولى أن يكون الحزب الشُّيوعيُّ مبادرًا لإقامة مثل هذا التَّنظيم الذي يظهر وكأنَّه إطار دينيٌّ، ولكن العجب سيزول عندما نعلم أنَّ هذا الإطار أقيم بعد النَّكسة عام 1967، بكلِّ ما يعنيه ذلك من عنجهيَّة المحتلِّ المنتصر، الذي حاول المساس بالمقابر والمقدَّسات الإسلاميَّة العربيَّة في مدينة حيفا” حيث أقام لجنة المبادرة الاسلاميَّة، التي تصدَّت بدعم الرِّفاق وأهالي حيفا الشُّرفاء لبلدوزرات الهدم والخراب فنجحت بهدم جزءٍ من مقبرة الاستقلال ولم تقوَ على هدم مقبرة الشَّهيد، الشَّيخ عزِّ الدِّين القسَّام في بلد الشَّيخ.
لقد وضع الاستاذ اسكندر عمل نقاط الحقيقة على أحرف الحقِّ والذَّاكرة، للذين يتطاولون على تاريخ الحزب النَّاصع على جبين وجباه الشُّرفاء من ابناء شعبنا، ولتكون مادَّة تدريسيَّة وتثقيفيَّة للشَّباب والجيل النَّاشئ، إذ أنَّ الإعلان عن يوم الأرض، ووضع اللمسات الأخيرة لتنظيمه وإنجاحه ليكون واسعًا وجماهيريًّا، صدر من حيفا، من مبنى صحيفة “الاتِّحاد” في شارع الحريري وبعدها انتقل إلى بيت الفنَّان القدير عبد عابدي، في شارع حدَّاد، في حيِّ وادي النِّسناس..
لقد ثابر الحزب في حيفا كما في باقي مناطق الوطن على خدمة الجماهير “لقد رأى الحزب بعد النَّكبة أنَّ عليه تقع مسؤوليَّة حماية الأحياء العربيَّة والاهتمام باحتياجاتها وتطوير بناها التَّحتيَّة وبنظافتها وخدماتها اليوميَّة”، لذلك قرَّر أن يخوض انتخابات البلدية، “ويناضل من أجل المساواة والعيش الحرِّ الكريم خاصَّةً “في قضايا السَّكن والتَّعليم والخدمات اليوميَّة للمواطن العربي الحيفيِّ”.
ويختتم الاستاذ اسكندر دراسته بقوله: “إنَّ حيفا ستبقى أبيَّة صامدة في وجه الرِّياح العواتي وسنبقى نحن هنا نحمل الرَّاية ولا نخضع، ولا نلين، “جيلٌ يمضي وهو يهزُّ الجيل القادم، قاومتَ فقاوِم”.
يُغني هذا الكتاب الكاشف، ذاكرتنا، ويُثريها ويُرسِّخها فيها، ويُعيدُ إلينا أحداثًا سقطت منَّا سهوًا، كذلك يَكشف للذين يهوون النِّسيان الذين يعملون في العَلن والخفاء ليُقنعوا الآخرين أنَّ التَّاريخ قد بدأ من عندهم، أتانا استاذنا بهذه المرجعيَّة ليُؤكِّدَ أنَّ رفاقنا، كانوا فاتحة كلِّ نضال وتحرُّكٍ، حيث عملوا بكلِّ ما أوتوا من قوَّة وتضحيات وإيثاريَّة، وبتواصل الليل بالنَّهار، في الكدِّ والنَّشاط والمثابرة في أرضٍ منكوبة، غابت غالبيَّة قياداتها عن السَّاحة بعد أن غلبها الارهاب والقتل والبطش والتَّخويف، حيث أراد لها الاحتلال أن تكون جرداء قاحلة من شعبها. يصعبُ عليَّ ان أتخيَّل بلادنا بدون الشُّيوعيِّين أو أن أرى شعبنا بدون وجود عصبة التَّحرُّر أو الحزب الشُّيوعيِّ أو ماذا كان سيحدث للغتنا العربيَّة، لغة آبائنا وأجدادنا بدون أدبيَّات حزبنا (الاتحاد، الجديد، الغد والدَّرب)..