على رِسلِكَ يا موتُ، لماذا تُجري دمعي مِدرارًا، فلا يميّزُ المـُعزّونَ بين دمعي على نهلة، وبين دمعي على سليمان، وبينَ دمعي على عفيفة، وبين دمعي على من سبقَهم من الأحبّة، وهم يذكّرونني بالرّاحلين الذينَ لم يغادروا قلبي لحظةً.
على رِسْلِكَ يا موتُ، حتّى أطمئنَّ على الوالدةِ في المشفى، وحتّى أُطفئَ نارَ الشّواءِ المشتعلةِ في أيّامِ العيدِ، علّي أُنهي معايدةَ الجيرانِ والأصحابِ، علّي أغيّرُ ملابسي الملوّنة، بلونِكَ الأسودِ الحالِكِ كليالي الحزنِ والبلاءِ.
على رِسْلِكَ يا موتُ، واترك دمعي ينزلُ مُتقطّعًا، واجعل مساحةً بينَ دمعةٍ وأختِها، وخفِّفْ عِبْأَكَ عنْ صدري، حتّى أتنفّسَ دونَ أنْ تتمزّقّ رئتايَ، واسمح لي أنْ أغيّرَ منديلي فلقد أثقلَهُ الماءُ المالحُ وهو يسيلُ من عينيّ، ويفيضُ على وجهي وشفتيَّ ويديَّ.
على رِسْلِكَ يا موتُ، فما زلتُ أبحثُ عن الأيمنِ في الأيسرِ، وعن الميّت في الحيّ، وعن الماءِ في الصّخرِ، وعن الابتسامةِ في الشّفتينِ الواجمتينِ، وعن الدفءِ في البردِ، وعنِ النورِ في الظّلامِ، وعنِ التّناسقِ في الفوضى، وعنِ اللّحنِ في الصّريخِ، وعنِ السّكونِ في تلاطمِ الأمواجِ، وعنِ الاطمئنانِ في القلقِ، وعن قلبي يطفو على الغرقِ، وعنِ الفرحِ في الشّقاءِ، وعنِ جمالِ الأرضِ في رحمةِ السّماءِ، مازلتُ أبحثُ عنّي، فدعني أجدني لكي أستطيعَ أنْ أبكيَ على نفسي، يا موتُ!
على رِسْلِكَ يا موتُ، مكّنّي من العثورِ على جثّتي، كي أشيّعَ نفسي، ويحملَني الشّبابُ يزفّونَني عريسًا، على رِسْلِكَ حتّى يُنادوا أولادَ عمّي، ويضربوا لي بالطّبولِ والزّمورِ، وحتّى ترقصَ في زفّتي الجنائزيّة أختي، وبناتُ عمّي، وسائرُ قريباتي، وصبايا البلدِ.
على رِسلِكَ يا موتُ حتّى تُنهي الوالدةُ تفصيلَ ثوبِ العرسِ، وحتّى يعطّرَني الوالدُ بأنفاسِهِ الذّكيّةِ، وحتّى نعدَّ “الكبّة”، فهي شهيّةٌ وهي طازجة، بينَ أكفِّ نساءِ البلدِ الماهراتِ العزيزاتِ الكريماتِ.
يا موتُ، أخذتَ منّا ما أخذتَ، فخُذْهُ على مهلِكَ، واتركْنا نشبعُ من حزنِنا على غريقِنا، خبّأتَهُ في الماءِ، بينَ الصّخورِ، أربعةَ أيّامٍ، وحرمتَنا منَ تساقطِ دموعِنا على وجنتيهِ، ومن تقبيلِ جبينِهِ، ولمسِ شفتَيهِ، تحرمُ حرارتَنا من برودتِهِ، وحُمرتَنا من صُفرتِهِ، وحضورَنا من غيبتِهِ!
أخذْتَ منّا ما أخذْتَ، فلماذا تُخفي حبيبَنا في بحرِكَ، بينَ صخورِك، وبينَ طيّاتِ موجِكَ، لماذا جعلتَ القريةَ ثاكلةً، وخبّأتَ فَلْذَةَ كبدِها عن عيونِها، أنتَ يا موتُ بدونِ قلبٍ، تعالَ الآنَ متخفيًّا وتعلّمْ من والدَي أيمن صفيّة كيفَ يتصرّفُ صاحبُ القلبِ، وكيفَ يتّسعُ القلبُ لمحبّةِ الأرضِ ومن عليها.
أيُّها الموتُ، أخذتَ منّا مَنْ أخذْتَ ولم تشبعْ، وسنظلُّ نُعطيكَ مَنْ رغبتَ حتّى تقنعُ، و”اليدُ العليا خيرٌ من اليدِ السّفلى”، فهلّا اكتفيتَ! أيّها الموتُ، لقد جعلتَ كلَّ شبابِ البلدِ أيمنَ وإخوةً لأدهمَ، وأصبحَ كلُّ الآباءِ هاشمًا وصارَتْ كلُّ الأمّهاتِ بْدُورَ، وكلُّ أبنائِنا أضحَوا إخوةً لاشتياق، أمّا أنتَ فماذا كسبتَ؟!
إياد الحاج
27/5/2020