الوقفة الأولى… مع التقدمة.
“لكل مقام مقال”، قول يمكن أن يحتمل وجهين متضادّين قيميّا، فيمكن أن يُحمل على أنه باب للتلوّن موقفا وممارسة، ويمكن أن يُحمل، وهذا ما قصد صاحبه على ما أعتقد، إنه باب لإيصال الرّسالة للمتلقّي بكلام مختلف دون المسّ بجوهرها ولأن هذا تحتّمه في غالب الأحيان قدرة المتلقّي على استيعاب الرسالة التي يحملها القول، وفي هذه الحالة لا ضير. والاحتمالان للقول لا ينسحبان على عدم قول ما يجب أن يُقال، وفي قول ما لا يُقال وجع رأس!
الوقفة الثانية… مع تخبّط المعلّقين.
ما أن أعلن نتانياهو عن تقديم موعد الانتخابات حتّى انهالت على المتابع تحليلات المعلّقين والساسة وخبراء، وفي صلبها السؤال: كيف ورغم كلّ سياساته، والأهم رغم كلّ الشّبهات التي تحوم حوله وفي صلبها الفساد، ما زال متربّعا على عرش الاستطلاعات؟!
“أولاد عمنا” يعتبرون أنفسهم صفوة البشريّة، وهذا الاعتبار ينسحب بالتالي في العلاقة الداخليّة فيما بينهم بشكل عام وثقافة الحوار بينهم بشكل خاص، فكلّ واحد فيهم يعتبر نفسه صفوة من حوله عقلا وحكمة.
ينعكس هذا في التعليق على كلّ حدث، وتراهم مثلا بدل أن يقول الواحد للآخر إذا وافقه الرأي: “الحقّ معك”، تجده يقول: “الحق معك، ولكن…” وال-“لكن” هذه ليست في غالب الأحيان إلّا “تحاكُم- התחכמות”، وهذا في أضعف الإيمان!
(ربّما يعتبر البعض إن في هذا القول عنصريّة وهذا أبعد ما يكون عن ذلك، وهو من باب قول ما لا يُقال ويجب أن يُقال، ليس إلّا).
لكن المعضلة في سياقنا لا تكمن فقط في هذا، وإنما في حقيقة إن كلّا منهم يعرف حقّ المعرفة أن كل اجتهاداتهم حول أسباب تربّع نتانياهو على عرش الاستطلاعات، هو بسبب “ثقافة القطيع” التي تسود قطاعا واسعا من المجتمع الإسرائيلي على ضوء التغيّر الديموغرافي المضطرد في العقود الأخيرة بين الغربيّين (الأشكناز) والشرقيّين (السفراديم) لصالح الشرقيّين ضحايا ثقافة القطيع.
هذا ما يخافون قوله، فيبرمون ويلفّون حول شتّى التعليلات هربا من القول هذا، رغم إنهم يعرفون حقّ المعرفة أن “الكلب مقبور هنا” وحسب مثلهم هم. ويكفي للدلالة؛ إن “كحلون” وزير الماليّة يخوض الانتخابات دون أن يكون وراءه ذاك الرّصيد الأمنيّ أو القياديّ أو العلمي ليحصد عشرة مقاعد، وإن “أورلي ليفي” ابنة الوزير الليكودي السابق دافيد ليفي ما أن تخرج من حزب لِبرمان وتعلن عن خوض الانتخابات في حزب جديد حتّى تجرف حسب الاستطلاعات ثمانية مقاعد، ضف إلى ذلك شاس-أرييه درعي وخصمه إيلي يشاي، وكلّ هؤلاء شرقيّون ومن أصول ليكوديّة.
الوقفة الثالثة… مع الحُثالة.
إن الوضع التمييزي الذي عايشه الآباء الشرقييّن تحت حكم حزب العمل التاريخيّ، جعل الأبناء، الجيل الثاني، يفتّش عن “ملجأ” آخر فوجده في الليكود. فكُثُر من رؤساء بلديّات ما يسمّى مناطق التطوير من أبناء الطوائف الشرقيّة تدرّجوا لاحقا في الليكود؛ دافيد ليفي، ومئير شطريت، وموشي كتساب وغيرهم. استطاع هؤلاء وأمثالهم حتّى الآن تبوّء الكثير من المواقع الوزاريّة وحتّى رئيس الدولة الموقع الرمزي، اللهم إلا إن كل محاولاتهم للتنافس على موقع رئيس الحكومة باءت بالفشل.
لعلّ التحوّل الكبير أو القشّة التي قصمت ظهر الجمل في “الصراع” على أصوات الشرقيّين كانت في الانتخابات البرلمانيّة التي تنافس فيها شمعون بيرس مع مناحيم بيجين، حين وصف عريف الاجتماع الانتخابيّ لحزب العمل، الإعلامي دودو طوباز، الشرقيّين بالحُثالة (تْشاحْتشَحيم- تكنية احتقاريّة عاميّة للشباب ذوي الأصول الأسيويّة أو الأفريقيّة والذين تنسب لهم تصرّفات العنف والتسيّب ونقصان قواعد الخلقيّات)، وتلقّفها بيجين هديّة جاءته من السماء في دعايته الانتخابيّة ضدّ حزب العمل، وتابعها خلفاؤه في العلن والسرّ.
الوقفة الرابعة… مع ثقافة القطيع.
بحكم ثقافتهم وأصولهم، فهؤلاء أقرب إلى العرب حياتيّا اجتماعيّا ولكنهم الأكثر كرها أعمى للعرب، ونتانياهو عرف ويعرف كيف يسوقهم وراءه ومن هذا الباب. وتصريحه المشهور في انتخابات 2015 عن تدفّق العرب إلى الصناديق، كان موجّها لهؤلاء وفعل نداؤه فعله بسبب ثقافة القطيع السائدة بينهم، والتي ليست غريبة عنّا نحن العرب ولنا في انتخاباتنا المحليّة البيّنة وألف برهان، فنحن في هذا جدّ متشابهين بحكم الموروث المشترك.
أبناء الطوائف الشرقيّة لم يُصهروا في البوتقة الإسرائيليّة وما زالت تسود بينهم وبين الأشكناز، الطوائف الغربيّة، غربة اجتماعيّة عميقة، ويكفي للتدليل تدنّي نسبة الزواج المختلط فيما بينهم والباقية إلى أجل بعيد. ورغم انتمائهم للطّبقات الدنيا سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا، هم أكثر من يرقص في أعراس اليمين وفقط بسبب الخطاب “الشعبويّ” إثنيّا واجتماعيّا، والذي عادة ما يجرف مثل هؤلاء وفي كلّ المجتمعات، ولنا في التاريخ البعيد والقريب أمثلة.
الوقفة الخامسة… مع خلاصة القول
هذا التحوّل الديموغرافي هو الرّافعة الأساس لنتانياهو وكلّ أحزاب اليمين، وهذا ما وراء تربّع نتانياهو على العرش طوال هذه السنين وفي السنين القادمة، ومهما ارتكب نتانياهو وحزبه من موبقات. فما “تعب” المعلّقين صحفيّين كانوا أو خبراء في التحليلات، إلا هباء وملء ساعات بثّ وقد تعدّدت القنوات، وسيبقى كذلك ما لم يضعوا الإصبع على هذه الحقيقة وعلنا. نتانياهو الأشكنازي وخصومه الأشكناز والمعلّقون والخبراء يعرفون ذلك حقّ المعرفة، وفي الغرف المغلقة يقولون ذلك، بعضهم يقوله مع فرك الأكفّ هناء والبعض الآخر من خلال شدّ النواجذ قهرا. ولكن هذا الذي يُقال في الغرف ليس من النوع الذي يُقال على الشاشات، وما دام هكذا هو الأمر فسيظّل نتانياهو يتربّع على العرش.
الوقفة الأخيرة… ومع المشتركة.
ليس سرّا إنّي من هؤلاء الذين أبدوا رأيهم قبل الانتخابات الأخيرة سلبا من القائمة المشتركة، ليس ضدّا في الشراكة وإنّما لأني اعتقدت وما زلت أعتقد إن الحل في قائمتين مرتبطتين وهو الأنجح إلكتوراليّا وميدانيّا تعدّديا. ولكن بغضّ النظر فهل القائمة المشتركة قادرة على تغيير الموازين؟!
هذا سؤال أتركه للأيام، خصوصا وإنّ رئيس القائمة النائب أيمن عودة في ظهوره التلفزيونيّ في الفترة الأخيرة (القناة العاشرة) مؤمن حتّى النخاع بذلك، لا بل يريدها قائمة فيها شراكة لأكثر من اليهود!
سعيد نفّاع
26 كانون الثاني 2018