نمّلية ستّي؛ صيّدلية لكلّ العائلة.. بقلم: شهربان معدّي.

 

في غرفة ستّي الشتويّة، ثمّة نمليّة صغيرة، كانت مركونة بجانب خزانة المونة، وكانت ذات طبقتين، في الطبقة السُفلى، وضعت ستّي إبريق الشاي الكبير وركوة القهوة المصنوعة من التوتياء، والفناجين الصينيّة الرقيقة، المزخرفة بماء الذهب، والتي احتفظت بها للضيوف، وطقم فناجين الزجاج، للأهل والبيت، وطبعًا الهاون الذهبيّ الثقيل الذي اشترته من أحد العطّارين المخضرمين في سوق عكا العتيقة وكانت تتباهى به أمام الجميع، وبه كانت تدقّ به كلّ خلّطاتها العجيبة، وتحضّر وصفاتها الغريبة، وفي قُبعة مجدولة من شلوح السّنديان، كانت تخبّأ الزبيب والقطّين المجفف، وقلوب الطوفي بطعم روح النعناع، للضيوف.

بينما الطبقة العليا الّتي كانت تفوح منها رائحة البراري والمراعي، كانت دفتيّها عبارة عن شبكة دقيقة من الصّفيح الدّقيق، تمنع حتّى نملة صغيرة أن تخترقها، ومن هنا أُطلقوا عليها اسم “النّمليّة”  حيث كانت ستّي تخزن فيها حفنات من الأعشاب والزّهورات المجفّفة التي كانت تعالج بها كلّ أفراد العائلة؛ حيث احتفظت بالميراميّة اليابسة لمغص البطن، والخضراء، لمنع نزيف الدّم في حالة الجروح، والبابونج اليابس، لوجع الرأس وتهدئة الأعصاب، بينما قلادة القرنفل التي شكّتها بإبرتها صاحبة الخرم الوسيع، كانت تعلقها في دفّة النمليّة، لمُعالجة الحالات الطارئة لأوجاع الأسنان، ومعالجة غشاوة البصر، وكانت تطحن مسحوق الحبق والريحان، المخلوط مع أعواد القرفة، بهاونها الثقيل، وتحفظ الخليط في صُرّة قماشيّةّ قد أحكمت اغلاقها، لتعطّر به كل مولود جديد يأتي للعائلة، وتدقّ الكحل الأسمر وأزرار القرنفل، لتكحّل كل عروس، وكانت تقطف عشبة الزوفا من براري قريتي الخضراء، وتغليها، لتقوية عضلات المعدة ومعالجة البحّة والسّعال، وضيق التنفس، وطرد البلغم، وكانت تحضّر لنا شاي أكليل الجبل “الروزماري” وتسمّيه إكسير الصّباح لتقوية جهاز مناعتنا، وتحتفظ بقنينة عشبة الفيجن المنقوعة بزيت الزيتون، للتمليس ومعالجة وجع المفاصل، والحلبة واليانسون، لدرّ الحليب، للمرضعات الحديثات، والمردقوش اليابس لتسريع الطلق عند المرأة الحامل، وطرد الأرق والكآبة، 

إيه يا ستي، ما زالت تزكم أنفي رائحة الزعتر المغلي، الذي كنت تسكبيه لنا في ليالي الشتاء الباردة، لتقوية قلوبنا الصغيرة وتهدئة أعصابنا، وكي تكبحي جماح السّعال، الّذي كان يُكاد يمزّق صدورنا، عندما يلسعنا برد كوانين القارس، وما زالت تتأرجح أمامي قنينة خلّ العنب التي كنت تستعملينها في تحضير الّلبخات المعجونة بالطّحين البلدي والخميرة والنعناع اليابس، لتمّتصّ الحمّ من أجسادنا الغضّة..

ستّي، كانت طبيبة العائلة دون منازع، ارتأت ألا ينفد العسل البلديّ من نمليّتها السّحرية وكانت تقول لنا دائمًا: – “العسل سيّد الأدوية” 

*أجدادنا لم يعرفوا معنى مصطلح “الطبّ البديل” ولكنّهم سخّروا الشجر والحجر وكلّ شيء يمكن أن يخدم الإنسان ويشفيه من العلل والسّقام 

 

ادهشتنا نمليّة جدّتي السّحريّة..

بزهوراتها الخارقة..

من كلّ البراري جمعتها..

بأناملها الذهبيّة…

أزرار القرنفل التي كانت تتدلى على دّفتها الخشبيّة..

ما زالت تُعرّش في قلبي..

وأوراق حديقتها اليانعة..

بعذوبة ملفوفة بصوتها الحنون

ما زالت تُناديني..

ما زلت أتشبث بذكريات الطفولة..

وأبني قلعة الوفاء العظيم

لكلّ نساء الأرض..

وللمرحومة جدّتي..

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .