لروح “المغنّي” الأديب إبراهيم يوسف.. أوحشنا غيابك أيّها الحصان العربيّ الأصيل.

شهربان معدّي.. يركا- الجليل

ها أنا أجلس لوحدي..

أراقبُ خطواتِ الشّمسِ

الخجولة..

على شرفاتِ المساء

بلغةٍ رقيقةٍ مرتعشة..

وروحٌ يقتلُها الحنينُ

أكتب لك..

ولأول مرّةٍ..

لن تقرأ كلماتي المخنوقةَ..

ولن تصافحَ عيونَك الغاليةَ

سطوري اليتيمة..

الشّمسُ تجنحُ للغروب..

حُزمة نور..

تخترق غيمةً حزينة..

وقلبي الجريح..

أواخر أيلول..

أوراق حديقتي..

شاحبةٌ صفراء..

تذرّيها الرّياح..

أصابعي المرتعشة..

تكتبُ كلماتٍ لن تقرأها..

ولكنّها روحك الحارسة

سهل البقاع ونهر البردوني

مثل أمير فينيقيّ قديم..

ستشعر بها..

نسيمٌ لطيف يداعب وجنتي

التفتْ..

ثمّةَ طيرٌ غريب

يحلّقُ حولي..

روحُك الشّفيفة..

ترافقني في كلّ مكانٍ وزمان..

الأشجارُ لا بيوتًا لها

وكذلك أرواحُ الشعراء..

حضنتني كما لو كنت طفلة..

قَرصْتَ خدّي بلطفٍ..

وقلت لي: أبك قليلا يا شهربان..

لا تخجلي.. اكتبي مواجعَك وانثري فرحَك

ولكن حافظي على نقاء قلبك وسلامة طوّيتك..

لطالما بكيتُ على سنديانةِ زندك..

كنت طفلةً في الخمسين..

وكنت رجلاً مُحاربًا..

خاطبت مدفع الحياة..

وجهًا لوجه..

في معركة الحرية

وقفت صامدًا أمام الرّيح..

وعلّمتني الصمود..

“كانَ ينبغي يا صغيرتي أن تنتزعي حقَّكِ من الدُّنيا بيَدَيْكِ! إن لم تصدِّقي؟ فَسَلي الأرضَ الحرَّة بفعل النفوس المحررة تُنْبيكِ أنَّ البقاءَ للأقوى، ولا مكانَ تحتَ عينِ الشمس لضعيفٍ أو مُتَرَدِّدٍ أو خائفٍ أو متسوِّلٍ.. أو خجول. إن لم تصدقي؟ فويلُ لكِ منكِ فقد حكمتِ على نفسك بالضَّيَاعِ، وحكمت عليّ بحسرة طويلة وندم لا يزول.”

 

سيبقى صوتك حيًّا

يغني..

فوقَ جبال صنين وهاماتِ الأرز

وضريح النبي ساما المطلّ على

مشارف شمس الجبل.. شمسطار

“والنجوم مرايا الكون يا شهربان، خبا نورها على منعطفات القلب العميق، فلم تعد كما كانت تضيء عتمة الدروب، بعدما غادرها إلى بلغراد حنّا يعقوب والفلاحون المباركون، من أهل الحياء وأولي العزم والتصميم الشديد، ممن تعمقت جذورهم في باطن الأرض، فأوحش غيابهم فؤاد سليمان على “درب القمر”، “بعد ما كانت الأرض سخيَّة في أيامهم، وقلوبهم سخية في محبة الأرض، وأيديهم لا تعرف غير العطاء، هم يعطون والله يملأ بطن الأرض بالخيرات. هؤلاء راحوا جميعا فلم يبق منهم، غير السكة المهجورة والمعول المكسور”.. وبعض ماشية هزيلة، وحقول يابسة عمَّها القحط والبور”

على درب القمر مشيّنا سويّة..

وعلّمتني أنّه يوجد في العالم..

ما هو ذهبيّ.. وما هو أخضر..

وما هو جميل..

يستحق أن نكتبَ من أجله..

ونعيش من أجله..

وعلمتني كيف أمسك المقبض

وكيف أسيّطر على دوّاسة المكابح

وأتجاوز إشارات المرور

وكيف أقود على الطرقات الوعرة

واتفادى الحُفر والمطبّات..

علّمتني التّفكير المتقدم وبلوغ الهدف..

وأنّ القلم..

مثلُ البندقية..

“مهما يكن من أمر الآداب بأشكالها ومراميها ووقعها في النفوس؟ فلم يعد همّنا في إسقاطاتِ اللغة وتداعياتِها؟ بل تحوّلت أنظارُنا إلى سقوط البلاد والكلمة العمياء تسبق الرصاصة”

أشجار حديقتي

ترتعشُ في الريح..

رياح سبتمبر لا تعرف الدلال..

ولكنها تنتظر قدومَك

عندما وعدتني ذاتَ مرّة

أن نتجولَ في حواري قريتي الوادعة

وبين كروم زيتون الجليل..

وكتبت لي حينذاك: صباحُ الخيرِ يا ابنة الجليل، صباحُ رائحةِ عطرِ الأرض في الشّتوة الأولى. الأرض الحبلى بمواسم التين والزيتون وطور سنين، وهذا البلد الأمين بكلِّ زَيْتِهِ وزيتونِه، بكلِّ خيرهِ وبقاعِه ونواحيه. سأنتظرُ قدومكِ كلَّ مرة؛ للتجوّلِ جنباً إلى جنب في حواري بلدتِك العتيقة.. يداً بيد وقلباً على قلب وأملاً يحدُوه أمل؛ ولعلَّ حبِّي وحده قليلٌ عليكِ يا شهربان؟ يا ابنة الأرض الكريمة والأصلِ الطيِّب.

رغم حكم الجغرافية

تجاوزنا حدود النّصّ

وبراري العنصرية

وغابات الجهل..

وقسوة البعد

ومنعطفات صعبة في الحياة

بدفء القلب ورعشة القلم..

وقفنا سويّة..

على مشارف نصوص انسانيّة، ثمينة.

وعلّمتني حينذاك أن كلّ الأهمية تكمن في البساطة

وسلامة التّعاطي في الموضوعيّة..

بعيدًا عن التكلّف والتّعقيد

وأن الشّجرة المثمرة وحدها تُرمى بالحجارة..

كنت ملجأً وملاذًا، لي ولغيري من زميلاتي الكاتبات..

فتحت لنا قلبَك وبيتك

لتستقر عندها آلامنا وتستريح

كنّا ضيوفك..

في القلب والدار

“هكذا أراكِ من بعد مئات الأميال، لا أتمنى أن تكون قُرانا وبلادنا متجاورة فحسب، ما أتمناه بل ما أرجوه أن تكوني جارتي في القلب والدار”

ملءُ يديك زهر

وملءُ عينيك أمل

وملءُ قلبِك محبة..

وملءُ روحك عطاء..

وملءُ نفسك دنيا من الأحلام..

فكيف لا نبكيك دمًا..

وقد سكنت فينا القلب..

ولمست فينا الرّوح..

وخاطبت فينا الإنسان..

“هي محطَّةُ مُبكرة وتباشيرُ حُبٍّ أو وَداعٍ..؟ نَصَبْتُها في قلبي لتتلقى إشاراتِ القلوبِ النابضة بالمودةِ والطّهارةِ والسّلام، التي تنطلقُ بصدقٍ وعفويّة وصفاء لتحطُّ في القلوب الأخرى بأمان”

لطالما أوجعك وضع هذا الكوكب الأنيق

الذي تستأثر بخيراته

حفنة من اللّصوص

تدير الصفقات والحروب

وتتحكم برقاب العباد..

تهين الكرامات في ظلمة الزنزانة

وتسرق حليب الأطفال

ورغيف الخبز القفار..

“أشعرُ باْنتِكاسِةٍ عاطفيَّة وغصّةِ في حلقي حينما أتناولُ طعاماً وفيراً، ويخطرُ في بالي أنَّ على أطرافِ الأرضِ في دنيا المجاعات، هيكلاً لطفلٍ آدمي من جلدٍ وعظم وعينينِ جاحظتين ورأسٍ بارز، يحومُ على وجهِهِ ذبابٌ أزرق يستعجلُ موتَه، فلا تسعفُه القدرةُ على المشي ليزحفَ على بطنه، ويحصل على كِسْرَةِ خُبْزٍ من الأمم المتحدة”

كنت تدرك أنّنا لن تُغيّر وجه العالم..

ولكن كان همّك الكبير؟

العدالة الاجتماعيّة

والعيش بكرامة تحفظ ماء الوجه

بعيدًا عن النفاق الاجتماعي والقهر والعهر..

أحببت وطنك “لبنان” أكثر من أي شيء

“إبان الحرب الأهلية تمسَّكتُ وآثرت البقاء بين أهلي، لأموت في أرضي ويرثها أولادي من بعدي، فلم أغادرْ إلى أمكنةٍ أكثر أماناً كانت متاحةً في بلدانٍ عديدة. الأرض ليست للمساومة ولا ينبغي أن تسكنها الذئاب ولا الأفاعي.”

وأحببت أولادك الأعزّاء وجهدت في تعليمهم وتثقيفهم وأحببناهم من خلال نصوصك الثرية.

“لا أضمرُ إلاّ الخيرَ للجميع لا أستثني أحدا. اعْتَنيتُ بتربية أولادي وتعليمِهم وتَسْفيرِهِم، وبذلتُ جهداً شاقاً فتمكنتُ من مواكبةِ ما أحتاجُهُ من حضارةِ العصر. أمينٌ في عملي، مخلصٌ لأسرتي وأصحابي، أحبُّ بلدي وأبناءَه بلا تمييز، وأصفِّقُ طويلاً لمناسبةِ الاستقلال إبان العرضِ العسكريّ، وأردِّدُ النشيدَ الوطنيّ بالصوتِ المرتفعِ العالي”

أتحفتنا بنصوص ثمينة من حقائب ذاكرتك الفتيّة.

غذّاها فكرك الصافي وقريحتك الخصبة

وتجاربك الحياتيّة، بحلوها ومرّها..

وعلّمتنا أنّ الإيثار أصل الفضائل كلها.

“أن نؤمن ونعمل؟ إنِّه المَثلُ الأعلى. أن نؤمن ولا نعمل؟ هزيمةٌ وعجزٌ وتقصير. أن نعمل ولا نؤمن؟ هو العمى يصيبُ القلوبَ قبلَ العيون. أن لا نؤمن ولا نعمل؟ ذلك هو الضياعُ بعينِه.”

ارقد بسّلام

أيها الطائر الغريب..

ارقد بسلام يا سيّدي

أنت في عيْن الله وحفظه.

وفي حضنِ لبنان ونبضه..

“العزيزة شهربان: الموت يا صديقتي؛ جزء من عجلة الحياة، فطوبى للأرواح المباركة تزورنا ولو في الأحلام وبوركت الأيدي المشققة… تلتف حول المعاول.. تشقى لتحيي وتخصب أرضا بورا.. بعد الموات”


ملاحظة: الفقرات التي تخلل النص هي اقتباسات من إرث المرحوم الأستاذ ابراهيم يوسف.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .