برهوم البُلشفي، إلى لقاءٍ.. د. خالد تركي

 

 

طلبتُ من والدي أن يشُدَّ الهمَّة، حين كان في القسم الباطنيِّ في المستشفى، فقد طلبتُ منه، شُدِّ الهمَّة يا برهوم، شُدِّ الهمَّة يا رفيقي ابو خالد ومعلِّمي يا برهوم البُلشفي، ويا أغلى من روحي عليَّ، ومن عينيَّ عليَّ يا والدي، أفديك بروحي وقلبي وكبدي، هيَّا لنتقاسم الهمَّ والغمَّ، شُدِّ الهمَّة..

لكنَّه لم يفعل، ولم يرد أن يتقاسم معي الهمَّ، أراده لوحده، هل يُفسَّر هذا الموقف على أنَّه الأنانيَّة، لا أظنُّ، لأنَّه لا يعرفها ولم تدخل بيتَه، لكنَّ الأصح هو أنَّه لم يقوَ على شدِّ همَّتِه، لأنَّ العزيمة والشَّجاعة قد خانتاه، فهذه الهمَّة قد كسرها الهمُّ..

لكنَّ برهوم لم يستطع أن يشُدَّ همَّته، فقد نالت الشِّدَّةُ من همَّته، واختطفته وأخفته عنَّا، وسرقته منَّا خلسةً، أخذت جسدَه، دون أن يختار هذا المصير، الذي كان يكرهه لكنَّه لم يخف منه أبدًا. كان يكره الموت لكنَّه لم يهبْه البتَّة، ولم يحسِب له حسابًا، روحُه على كفِّه، كان ينتعشُ لنشيد “نحنُ الشَّباب”:

نمشي على الموتِ الزُّؤام إلى الأمام إلى الأمام

وكان يردِّد ما قاله المتنبِّي:

وإِذا لَمْ يَكُن مِنَ المَوتِ بُدٌّ فَمِنَ العَـارِ أَنْ تَمُـوتَ جَبَانَـا

فنَم قليلاً، يا والدي لقد حانَت السَّاعة..

روحُك الزَّكيَّة الطَّاهرة معي، قلبي المخلص حزين بغيابك، لكنَّه معك، ذكراك معي،

أحملها بين طيَّات قلبي وعقلي أينما إتَّجهتُ..

الآن، يا والدي، تستطيع أن تنزعَ أكليلَ الشَّوكِ من على هامتك المرفوعة دومًا، وتضعه جانبًا، بعد أن خذلتك هِمَّتُك، لتأخذَ قسطَك من الرَّاحة التي لم تعرفها، بعد تسعين ربيعًا أو يزيد من العمل والكفاح والشَّقاء والعناء والمشقَّة والتَّعب والإرهاق والكدِّ والضَّنك..

فنَم قليلاً، يا والدي لقد حان وقت الرَّاحة..

لقد أتتك الرَّاحةُ الأبديَّةُ إلى عقر دارك، إلى بيتك..

مع السَّلامة يابا يا حنون، يا رفيق الطَّريق، ويا صديق الطَّريق سأشتاق اليك..

راح اشتقلك، سأفتقدك..

فأنا من بعضِك وأنتَ من بعضي..

بل أنتَ كلُّ كلِّي، لا أنتَ بعضٌ منِّي ولا انا بعضٌ منكَ..

فالهوان الذي أتاك على حين غرَّةٍ خفيةً، أتاني

والموت أصابَك لكنَّه لم يُصبني..

هل سألوكَ عنِّي فرفضتَني أم سألوني عنك فرفضتُ مرافقتكَ..

كنتَ جزءًا كبيرًا من حياتي اليوميَّة، أو كنت كلَّ حياتي، صباحًا على فنجان قهوة على شرفة بيتك، أسمع منك الكلمة الحلوة وتساؤلات حول الوضع، “أولاد الكلب مش مصلِّين ع النَّبي”، “هدول محراك شر” وعند الظَّهيرة لا تحلو لنا لقمةُ الغذاءِ دون أن نكون بجوار بعضنا البعض، وفي العشاء بعد انتهائي من عيادتي، كنَّا نتسامر بعض الشَّيئ حول مشاكل اليوم ومستجدَّاته، وننشد معًا أغاني الشَّبيبة الشُّيوعيَّة وأخرى روسيَّة وأمميَّة وأغاني طرب، كم كان صوتك عذبًا عندليًّا.

موطني موطني..

ففي إحدى الصَّباحيَّات:

مع فنجان قهوة على شرفة والدي ذات صباح يومٍ، يتذكَّر ابو خالد الاستاذ نعمة صبَّاغ، معلِّمَه للغة العربيَّة في المدرسة الاسقفيَّة للرُّوم الملكيِّين الكاثوليك في حيفا، ويستذكر هذه القصيدة لأمير الشُّعراء أحمد شوقي عن “الوطن”:

عَصْفورَتان في الحِجازِ حَلَّتا على فَنَنِ

مرَّ عَلى أَيْكِهما ريحٌ سَرَى مِنَ اليَمَن

حَيَّا وقَالَ دُرَّتان في وِعاءٍ مُمتَهن

الحَبُّ فيها سكَّرٌ والماءُ شَهدٌ وَلَبَن

لم يرَها الطَّيرُ ولم  يسمَعْ بِها إِلّا افتَتَن

هَيَّا اركباني نَأتِها في ساعةٍ مِنَ الزَّمَن

قالَت له إِحداهما والطَّيرُ منهُنَّ الفَطِن

يا ريحُ أنتَ ابنُ السَّبيلِ ما عرفتَ ما السَّكَن

هَب جنَّة الخُلدِ اليَمَن ..لا شَيء يعدِلُ الوَطَن

علَّمتنا حبَّ الأرض والوطن والإنسان، “علَّمتنا كيف الشَّمم وكيف نقهَرُ الأَلَم”

فنَم قليلاً، يا والدي، فأنتَ الآن طائرٌ من طيور الفردوس الأعلى، فكُن لنا شفيعًا..

كنتَ كريمًا، عزيزًا، ودودًا، ذا رؤية ثاقبة، صادقًا، مخلصًا، عصاميًّا، إيثاريًّا..

كنتَ صديقًا، صدوقًا، رفيقًا، معلِّمًا، متواضِعًا، وفيًّا، عربيًّا، عروبيًا وأمميًّا وشريفًا، مثقَّفًا ملتزمًا، شجاعًا ومقدامًا وعاملاً شيوعيًّا في مصانع الاستغلال والاستبداد والاستعباد، في خطِّ الجهاد ضدَّ صاحب العمل واستغلاله، كنتَ والدي..

كنتَ فخري وافتخاري وفخاري ومفخرتي..

كلُّها أسماؤك الحُسنى يا والدي..

وفي صباح آخر:

على فنجان قهوة مع والدي الحبيب ابو خالد ذات صباح، أنشدَ لي:

نحنُ جندُ الله شُبَّان البلاد

نكرَهُ الذُّلَّ ونَأبَى الاضطِهاد

فارفَعوا الأعْلامَ وامضُوا للجِهاد

حيثُ تمادَى اعدَاؤنا في الغُرور..

حين سألتُه بتحبني يابا، قال نعم متعجِّبًا لسؤالي، ومن يحبُّ الآخر أكثر، مين بحب التَّاني اكتر أنا أو انت، قال لي: أنتَ، فسألتُه لماذا، قال: لأنَّك ترعاني وتشرفُ عليَّ، وتضعني تحت رعايتك وعنايتك، فقلتُ له كيف لا، وانتَ والدي ومُهجتي، ﴿أَكرِم أباك وأمَّك﴾، ﴿..وبالوالدينِ إحسانًا..﴾، فهذه قطرة ماء من بحر عطائك وتفانيك

وحبِّك، منذ أن كنَّا “زغب الحواصل”..

كان ينتعش على فراشه، حالاً، حين كنتُ أُنشدُ له اناشيد الشَّبيبة الشُّيوعيَّة والوطنيَّة، وأغاني الطَّرب على أنواعها، خصوصًا الشَّامية منها واللبنانيَّة..

فنَم قليلاً..يا رفيقي، إلى لقاءِ الأناشيد ولقاءِ الطَّربِ، يعلمُ موعدَهُ الغيبُ..

رفيقاتك ورفاقُك الذين رحلوا في انتظارك، والدتي التي رحلَت في انتظارك، وكم كنتَ تحدِّثني عنها، هناك في انتظارك أخوك وأبن عمك، ووالداك وأهلك وأحبابك ينتظرونك فلا تتأخَّر عليهم، بالتأكيد إنَّهم مشتاقون لك، لقد قتلَهم الشَّوق إليك، لا تتأخَّر..

أذكر أنَّني حين رُفِّعت من حركة أبناء الكادحين لحركة الشَّبيبة الشُّيوعيَّة قال لي والدي: عليكَ أن تكونَ على قدِّ الحمل، وان كنتَ غيرَ كفؤٍ لذلك فالزّم مكانك ولا تتقدَّم.. عليك ان تكمِّل طريقي كما كنتُ أنا أو يزيد..

أنا منكَ وأنت منِّي..

وأنا كلُّك وأنتَ كُلِّي..

البارحة زارني لتعزيتي صديقٌ من حارتنا، من وادي النِّسناس، قال لي، لو لم يمسِكني ابو خالد، ليَرعاني لهدايتي إلى الطَّريق القويم والمستقيم، منذ البداية لضعتُ، واخذَتني المتاهات إلى مجهول ما بعد الغَيب لا يعرفه إلا ربُّ العارفين وعالِمُ الغيبِ..

لقد كان لوالدي الفضل على كثيرٍ من شباب الحارة، وهذا باعترافهم حين أتوا لبيت العزاء، وكم هم كثرٌ، الذين علَّمهم الصَّنعة والحِرفة وابدعوا فيها ووصلوا إلى أعلى المراتب والمراكز كمتعهِّدين مستقلِّين، وبالاساس تعليم المهنة والاعتماد على الذَّات والمثابرة بالعمل والالتزام والاخلاص واحترام العامل الذي يعمل معك..

كثرٌ هم الذين قالوا لي في بيت العزاء “كان ابو خالد مُعلِّمي”..

لم ينتظر تصفيقًا ولا وسامًا ولا تقديرًا..

فنَم قليلاً، بانتظار تسليم أَوسمة التَّقدير..

كانت غالبية إدارة المصانع في شمال البلاد تمنعه من الدُّخول اليها والعمل فيها، لقد دفع ثمن آرائه ومواقفه وعقيدتِهِ، معتقدين واهمين، أنَّ هذا العِقاب سوف يثنيه ويحيده عن طريقه، لكنَّه صمد واختار أن يعمل في مصانع الجنوب، إيلات وديمونة وعراد وكان يأتي لزيارتنا مرَّةً كلَّ اسبوعين ليوم أو يومين، فكنَّا ننتظره على أحرٍّ من الجمر..

كنتَ شجاعًا، باسِلاً، مقدامًا وصلبًا “بِعنا له أرواحَنا بلا ثمن”، ولم يكسرك الحصار، فقد حاصرتَ حصارهم بإرادتك وعزمك وعزَّتِك وشهامتك، وإبائك وكبريائك..

غادرتَنا في ذكرى عزيزةٍ، ذكرى حرب تشرين التَّحريريَّة، خمسون عامًا على التَّحرير، عندما كاد الميزان أن يميلَ، (كيف يحمي حقَّه يومًا إذا الميزانُ مال) فنستذكر ما كتبه توفيق زيَّاد في العبور:

كان العبور مقدَّسًا، والشَّمس في عزِّ الظَّهيرة

والشَّام تعودُ للجولان، زاحفةً على جسدِ الرَّدى

باسم الحياة، وكلِّ وردِ الأرضِ، عُشبِ الأرضِ..

صخرِ الأرضِ، اسلحةٌ تُقاتلُ، والقذائف تسحقُ

الفولاذ بالفولاذِ، والنَّاس الدِّمشقيُّون كالغضبِ المُقدَّسِ..

وكان التَّحرير في تشرين..

غادرتَنا في حربٍ شرسةٍ فتَّاكةٍ تأكلُ الأخضر واليابس، أعرف كيف بدأت لكنَّني لا أعرف كيف ستنتهي، لكنَّني أعرف أن لمحراك الشِّرِّ مخالبٌ فيها، وأنَّ نهاية كلِّ حرب السَّلامُ،  فاجنحوا للسِّلم، أيُّها العاتون، فمهما تمادى الاحتلال في غيِّه فهو بالتَّأكيد إلى زوال، تلك هي الحتميَّة التَّاريخيَّة..

ما في حل وما في حل إلا بتقليع المحتل وما في مستعمِر بِضَل..

وكلماتك في جعبتي دومًا: أعطني إرادةً أُعطيك قدَرًا ونَصرًا..

وإذا شئتَ فأنتَ قادر..

كان والدي نظيف اليد واللسان والقلب، كما جاء في الحديث الشَّريف، “مخموم القلب وصدوق اللسان”، كان تقيًّا نقيًّا ﴿..فلا إثمَ عليه..﴾، ومخلصًا لطريقه القويم، لم يحسد أحدًا، ولم يكره أحدًا ولم يغِل أو يغدُر أحدًا ، كان يحبُّ النَّاس جميعًا، فبادلوه المحبَّة بالمحبَّة والحبَّ بالحبِّ..

كان محبًّا للبشر، للأرض والإنسان..

كان يؤمن أنَّ الإنسان وُلد حرًّا فلماذا هذا الإستعباد..

“متى استعبدُتم النَّاس وقد ولدتْهُم أمهاتُهم أحرارًا”

من على شرفة والدي ومع قهوة الصباح انقل لكم سؤال ابي خالد:

بعد كلِّ هذا الدَّمار الذي تركه رأس الحيَّة ومحراك الشَّر في شرقنا العربيِّ، امريكا، في العراق بحجة وجود اسلحة كيماويَّة وتركهم للفوضى تأكلُ اهل البيت العراقيِّ هل من محاسب! يجب ان يحاكَموا كمجرمي حرب ومجرمين بحقِّ الإنسانيَّة، لكنَّ الانكَى هو ان حكَّام الحجاز وقطر ومفكريهم مثل ذيل الكلب، أعوج، ويتابع والدي قوله “وَهَل يُصلِحُ العَطَّارُ ما أفسَدَ الدَّهرُ؟” هؤلاء فاسدون في الارض ومفسِدون الارض ويجب التَّصدِّي لهم بكلِّ ما اوتينا من قوة وعزم وارادة..

وعن الأوضاع في سوريَّتي، على شرفة والدي ذات صباح: الولايات المتَّحدة الامريكيَّة وآل سعود وحكَّام قطر وآل صهيون ثالوثٌ دنِسٌ في جوقة واحدة تتنبَّأ بنهاية الاسد، بدكوش تفهموها يا عرب عاد، يقول والدي ابو خالد الشُّيوعيُّ المخضرم:

ستبقى سورية صامدةً منتصرةً بطبيب عيونها وعيونِنا بقيادتها وبشعبها الطَّيِّب الكريم العزيز المعطاء المتفاني الاصيل وستُفقأ عيونكم يا عملاء الامريكان..

سنَفقأ عيون الثَّالوث الدَّنس..

نَم قليلاً واسترح قليلاً، يا أبتي، واذهب بعدها إلى نوح، لترى ما قد رأى هو، من أرضٍ خضراء، بعد الطُّوفان والطُّغيان والفَيضان..

كان حنونًا على أبنائه وأحفاده وأسباطه، مداعبًا وملاعبًا وممازحًا، “دع الأطفال يأتون إليَّ..”.

وحدَّث أحفاده مرارًا قصصًا، منها:

دَعاني صديقٌ لي لأكلِ القطايفِ فامعنتُ فيها آمِناً غيرَ خــائفِ

فقال: وقد أوجعتُ بالأكلِ قلبَه، رويدك مهلاً فهي إحدى المتالفِ

فقلتُ له: ما إن سمعنا بهالكِ يُــنادَى عليــه: يا قتيــلَ القطــايفِ

كان والدي، أبو خالد، في طفولتنا يُنشِد لنا أهازيج واناشيد وأغاني الوطنِ والعمَّال والفلاحين والأطفال، فحفظناها كما نحفظُ طريقَنا إلى بيتنا وكما نحفظُ الخطوط التي رسَمتها سنوننا على راحات أكُفِّنا وبيَّنت سيماهنا على جباهنا ووجوهنا، كما يحلو لها، وقد لازمتنا هذه الأناشيد في منظَّمة “أبناء الكادحين” وتنظيم “الشَّبيبة الشُّيوعيَّة” والحزب لاحقًا، وأصبحنا نُنشِدها سويَّة، معه، في سَمَرنا.

ذات مرَّة أنشَدَ لأسباطه، أنشودةً من قصَّة “الجدْي والعجوز”: كان جديٌ لعجوزٍ أشهب اللونِ ظريف، كان محبوبًا لديها (لدى العجوز صاحبته) إذ هو الجديُ الأليف، راحَ هذا الجديُ يومًا سارحًا بين الحقول فأتى الذِّئب عليه وهو يقتاتُ البُقول..

وأنشدوا معه ومالت قلوبهن إلى جدِّهم، ما أحلاك يا جدِّي..

أنت في بالي ﴿..بُكْرَةً وأَصِيلاً﴾، أنتَ في بالي ﴿..بالغُدوِّ والآصال..﴾، أنتَ في بالي ﴿..بُكْرَةً وعَشِيًّا﴾..

أحسبُ أنَّك تتنتظرني صباحًا لاحتساء القهوة، وأحسبُ أنَّك تنتظرني في الظَّهيرة لتناول وجبة الغداء، وعلى فنجان شاي راحة العَشيِّ بعد العيادة..

فلا تنتظرني يا والدي، فالقهوة أصبحت بلا نكهة، وصار الغداء بلا طعم..

لن أُسرعَ إلى بيتك بعد انتهاء الدَّوام، لكنَّك معي وستبقى معي بعد انتهاء كلِّ دوام..

نَم قليلاً، سأُودِّعك إلى لقاءٍ في يوم البَعثِ..

وإن رحلتَ جسدًا فإنَّ روحك لم ترحل ولن ترحل، إنَّها باقية في وادي النِّسناس، وعلى شاطئ وادي الجمال وابو نصُّور والعزيزيَّة، باقية في كلِّ أجزاء حيفاكَ..

باقً في حيفا إلى أن ينام القمر..

منمشي ومنكفي الطَّريق يا رفيق..

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .