انهمار اللؤلؤ من عينيّ إبراهيم

(مهداة إلى الأستاذ الكبير والقدير والنّبيل إبراهيم طه مع حفظ اللّقب)

ملامحه هادئة، حركته رصينة، نظراته مُطمئِنة، صوته عميق جديّ ومريح، ابتسامته واثقة، شكله مرتّب وطابع الشّباب الطّموح في شخصيّته يغلب على سمات الكهولة الحييّة، يرتّب أوراقه على طاولته وهو جالس بصمت، يبدو متردّدًا في توزيع بعض الأوراق، ولكنّه يحسم أمره ويوزّعها بتوتّر خفيّ.

طلابي الأعزّاء، سأقوم اليوم بمغامرة غير محسوبة العواقب، سأحاول أن أصمد في الامتحان، أشعر أنّني سأتورّط في هذه المهمّة، ولقد تردّدت في قبولها، ولكنّها ألحّت عليّ، سنحلّل اليوم قصيدة لشاعرنا سميح القاسم، وتردّدي في تحليلها يعود إلى تورّطي عاطفيًّا في مضمونها، وقد درست إنتاج هذا الشّاعر كلّه، والتقيته مرارًا، وتوطّدت بيننا علاقة صداقة طيّبة، وبعد هذا الارتباط بالشّاعر وبإبداعه عليّ الآن أن أفصل نفسي عنهما، وأن أكون محايدًا، موضوعيًّا، باحثًا يتمتّع ببرود الأعصاب، مجرّدًا من الانفعال، فمن يسعفني في هذا الموقف؟!

طلّاب “مساق الأدب الفلسطينيّ في البلاد”، للّقب الثّاني، واجمون، مذهولون، صامتون، ينظرون إلى محاضرهم القدير متعجّبين، لم يصادفوا محاضرًا في مساقاتهم منخرطًا في النّشاط الأدبيّ الجاري في مجتمعنا، إلى هذا الحدّ من التّفاعل والعمق والفعاليّة. وهو يذكر في معظم محاضراته مقالاته التي ينشرها في صحيفة الإتّحاد، ويوجههم لقراءتها، وهو يشارك في الأماسي الأدبيّة، ويقدّم مداخلاته المضيئة على إبداع كتّابنا المحليّين، ويستجيب لإصرار الأدباء لكتابة مقدّمات إصداراتهم، وكلّ ذلك وسط انشغاله الأكاديميّ في أبحاثه وقراءاته ومؤلّفاته.

بعد أن أصبح النّصّ بين أيدي الطّلّاب، رفع المحاضر رأسه، ونظر في عيون طلّابه، وسأل: هل هناك من يعينني على هذه الورطة، وهو مستعدّ للقراءة، قبل أن نباشر التّحليل الأدبيّ؟ خجل الطّلّاب أمامه، فهم يصادفون القصيدة لأوّل مرّة، وقراءة الشّعر تتطلّب التّمكّن من النّصّ أوّلًا، فضلًا عن وجوب الإلقاء الذي يليق بالقصيدة ومؤلّفها، وإضافة إلى أنّ الأستاذ يشدّد على ضرورة التّأنّي في القراءة، مع اللّفظ السّليم للحروف، وسلامة اللّغة، ممّا زاد المهمّة تعقيدًا. وبعد أن استشعر تردّد الطّلّاب، قال: ستزيدون عليّ الحمل، الذي أكاد أنوء تحته، ولكنّني سأحاول.

بدأ الأستاذ إبراهيم بقراءة القصيدة، وهي من القصائد الأخيرة التي كتبها الشّاعر الرّاحل سميح القاسم، قبل وفاته. بدأت نبرة الأستاذ تتوتّر بالتّدريج، وبدأ الارتجاف يظهر على لسانه وشفتيه، توقّف هنيهة، رفع رأسه، نظر في وجوهنا قائلًا: كأنّها وصيته الأخيرة. وهنا بلغ الانفعال ذروته، ولم يستطع الأستاذ تمالك نفسه، فبغتته الدّموع وفضحت تورطه، فلم يجد بدًّا من الاعتذار والخروج من الصّفّ، محاولًا تغطية وجهه بمنديله وهو يندفع نحو الباب.

كان الطّلّاب مصعوقين من المشهد المؤثّر الذي لم يصادفوه في سنوات تعليمهم للّقب الأوّل، ولا للّقب الثّاني. ويضجّ السّؤال في الذّهن لماذا حصل الآن هذا المشهد، وهو غير مألوف وغير متوقّع، وهو عكس التّوجّه العلميّ البارد، الموضوعيّ، غير المنحاز؟ وكان الجميع يعرف الجواب، دون اجتهاد وتداول في الموضوع، فالمحاضر مختلف، هو من نوع آخر، كسر حاجز الأكاديميا، وربطها بمجريات الواقع، ممكّنًا إيّاها من أخذ دورها الاجتماعيّ بحيث يتكامل الطرفان بهذه العلاقة. وأنا أشهد أن نشاط الأستاذ إبراهيم في السّاحة الأدبيّة المحليّة، قد أعطاها زخمًا ثقافيًّا، وارتقى بها أدبيًّا، وساهم في إضافة بعد جديد، هو توظيف خلاصة التّطوّر البحثيّ الأكاديميّ في الحركة الثقافيّة، مع كلّ ما يترتب على ذلك من تطوير أدوات الكاتب، ورفع الوعي الكتابيّ الإبداعيّ.

وبينما الطّلّاب في حيرتهم، وتأثّرهم الشّديد بالمشهد الأكاديميّ النّادر، وبعد دقائق من وقع دموع المحاضر في نفوس الطّلّاب، دخل الأستاذ إبراهيم معتذرًا عمّا سبّبه تورطه بالنّصّ من انفعال ظاهر، ومعتذرًا مرّة أخرى عن متابعة قراءة القصيدة، ومن ثمّ تحليلها، وأعطى المجال للانشغال بنصّ آخر، يكون أرحم على مشاعره وعاطفتنا من قصيدة سميح القاسم.

لقد كنت أعرف الأستاذ إبراهيم من أيام تعليمي الجامعيّ الذي استأنفته متأخّرًا في حياتي، من سنوات اللّقب الأوّل، وقد شهدت المؤتمر الأوّل للأدب الفلسطينيّ، في جامعة حيفا، وكان ضيفه الشّاعر سميح القاسم، قبل ما يقارب عقد من الزّمن، وكان الأستاذ إبراهيم رئيس قسم اللّغة العربيّة في الجامعة، وكان حضور الطّلّاب بأعداد كبيرة، وهذا كان خطوة من خطوات كثيرة قام بها، ولا يزال يقوم بها، كجزء من مشروع ربط الجامعة عامة بالمجتمع، وتوثيق علاقة قسم اللّغة العربيّة خاصّة بالحركة الأدبيّة، وفتح قنوات مباشرة بين البحث العلميّ، وبين المجتمع، ليحضر هذا المجتمع في الجامعة، ولينهل من معينها، في علمه وفي أدبه.

إنّ ما يمثّله الأستاذ إبراهيم طه يجعل منه ظاهرة أكاديميّة مميّزة، تصل البحث العلميّ بمن يحتاجه مباشرة، بدون وكلاء، ظاهرة تقوم بالدّور العلميّ في النّشاط الزّاخر للحركة الأدبيّة الفلسطينيّة، وهذا النّموذج جدير بالتّقدير والإجلال والاعتزاز.

وفي العام الماضي، في شهر تشرين الأوّل، ترأّس الأستاذ إبراهيم المؤتمر الأوّل للأدب الفلسطينيّ، الذي بادر إليه إتّحاد الأدباء الفلسطينيّين في البلاد، والذي عقد في مدينة عرّابة، وكان لي شرف المشاركة فيه، والكلّ يعلم أيّ إضافة نوعيّة للمؤتمر أضافتها مشاركة الأستاذ إبراهيم بمساهماته على أكثر من صعيد.

في ذلك اليوم الدّامع علّمنا الأستاذ إبراهيم درسًا لن ننساه أبدًا، درسًا في العلاقة بمجتمعنا الذي أرسلنا إلى الجامعات، والذي ينتظر عودتنا إلى أحضانه، لنساهم بعلمنا الذي اكتسبناه بتقدّمه وتطوّره وتنشيط الحياة فيه بكلّ مستوياتها، فشكرًا لك يا أستاذ إبراهيم على هذا التّثقيف الذي تقوم به لطلّابنا، ولما تمثّله من جسر بين الجامعة والمجتمع، ومن نشاط نقديّ في ساحتنا الأدبيّة يفعل فعله في تطوير أدبنا المحليّ.

أريد أن أراك كأجمل ما في بلادي، كشجرة الزّيتون، دائمة الخضرة، كلّ ما فيها مفيد، وعطاؤها ننتظره كلّ عام فهو خير وبركة، وعمرها لا يقاس بالسّنين، ولا بالعقود، ولا بالقرون، عمرها كعمر الوطن، فقد رافقت أهله مذ زرعوا الأشجار، وستبقى تزيّن ربوعنا وبقاءنا الكريم في أرض الآباء والأجداد، وما فيك من خواصّ هذه الشّجرة المباركة، ومن ثمار تفيض علينًا زيتونًا صوريًّا شهيًّا، وزيتًا صافيًا كصفاء قلبك، يزيّن موائدنا وينير عتم اللّيالي القاتمة القادمة، ويقوّي عظام آكليه.

إياد الحاج

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .