الشاعرُ لا يُشيّعُ الى مثوىً أخير.. علاء مهنّا بوشكار، الهند.

كم يُحزنني أنّني لست اليوم بين أهلي وناسي.

وحدي أبكي، بعيداً عن أكتاف أخوتي.

كلٌ هناكَ في البقيعةِ يجدُ من يواسيه وأمّا أنا ها هنا فمن ذا  يواسيني؟!

كلٌ هناك في البقيعة يجد من يعزيه وأمّا أنا ها هنا فمن ذا يُعزّيني؟!

كلٌّ يرطّب بذكر المرحوم العم الشاعر حسين مهنّا لسانه، ذاك يحدّث عن خصاله، آخرٌ يروي شيئاً عن مسيرته الفريدة

ولا شكّ هنالك في القرية أطفالٌ يقرؤون اليوم لعمي حسين أكثر من قصيدة.

وهنالك شبابٌ يقفون في حضرة الموت بصمت، ولو كنت اليوم في البقيعة لوقفت بينهم مطأطئ الرأس حزيناً، أمّا هنا حيث البكاء المُوحش فماذا  أقولُ؟

لو كنت هناك لكفكفت دمعي ولتتدافعت بصمتٍ نحو النعش علّي أحظى بشرف حمل الرفات على كتفي ولو قليلاً ولقلتُ لنفسي:  عمي حسين… سيتذكره الناس وسيفتقدهُ الزيتونُ والشعراءُ أبداً لا يُشيّعون لمثوىً أخير.

أمّا هنا حيثُ لا أحد غير حزني وذاكرتي لن أجد من يواسيني ومن يعزّيني غير القصيدة، قصيدة عمي حسين.

هذه قصيدةٌ في حقلها سوسنٌ للفرح وأكثر، عمادها همّ الإنسان بهموم أخيه الإنسان،  خيمتها لم تضق يوماً ولكن قلب صاحبها لا شكّ اتسع.

وأنا لي معها قصصٌ ابتدأت منذ الطفولة، قصص فخرٍ واعتزاز وقصص نضوج وصقل هويّة.

في طفولتي تساءلتُ لماذا يقول عمي الشاعر إنّنا قابضين على الجمر؟

في طفولتي احترتُ لماذا يريدُ عمي الشاعر أن يموت قابضاً حجر؟

كبرتُ فعلّمني أنّ الوطن ينزفُ  حبّاً وأنّ الحبَّ أولاً  وحين أرادوا لي أن أقبض على  بندقيّةٍ أخبرتُهم أنّي لا أقبضُ على ما لا يقبضُ عمي الشاعرُ عليه، ولم أشأ أن أطلبَ منهم طلبه البسيط فإنّهم لا يفقهون شيئاً في القصيدة.

بلى هكذا هو الشعر، هكذا هو الأدب الفلسطيني، إنّه قادرٌ على حفظ ذاكرة الأبناء، إنّه قادر على صقل هويتهم وعلى توجيههم بلا توجيه وعلى انقاذهم بلا انقاذ.

ولا شكّ ستقرأ أجيالٌ تلو الأجيال قصيدة عمي حسين ولا شكّ أنّه باقٍ فإنّ الشاعر لا يُشيّعُ الى مثوىً أخير.

في القدس حين كنت أُدرّس اللغة العربيّة  لطلبة التوجيهي دخلت الى الصفّ وكان هنالك فرحٌ يانعٌ تحت لساني، أخبرت الطلاب انّي سأدرّسهم اليوم وفق المنهاج الفلسطيني قصيدةً لعمّي الشاعر الفلسطيني حسين مهنّا، وأضفتُ بفخر إنّهم يدرّسون قصائده في المنهاج الاسرائيلي أيضاً.

في مرحلةٍ ما قال الطلاّب: أستاذ فهمنا أنّه عمك وأنك فخور بهِ.

بلى إنّه عمّي، هو شاعر الحبّ والوطن  وأنا فخورٌ به فهل في كلّ يومٍ يولدُ بيننا شاعر؟!

هل في كلّ يوم يولد شاعر حقيقي قادرٌ  بمسيرته الشعريّة وبقصيدته على حفظ الذاكرة ومرافقة نبض الشعب والتعبير عن هموم الآخر قبل النظر الى همّ الذات؟

كم يُحزنني أنّني لست اليوم بين أهلي وناسي،

وحدي أبكي.. بعيداً عن أكتاف أخوتي

لقد رحل الشاعر،  لقد رحل عمّي الشاعر.

هُوَ لم يُشيّع الى مثوىً أخير، إنّه باقٍ فذاك أديبٌ يهدسُ في قصيدته وتلك فتاةٌ تتمرأى في استعاراتها وذلك ناقدٌ يدرس تراكيب أشعاره اللغويّة وذلك شابٌ يجدُ في المعنى اجوبةً  عن الذات والهويّة وذلك شعبٌ يُنشد طلبه البسيط من الانسان،  من أيّ انسان…

كُن ما شئت

شيعيّاً سنيّاً دُرزيّا

كُن نُصرانيّا

شرقيّاً أو غربيّا

كُن من أتباع يهوذا

أو من أنصار القائد بوذا

أعبد ما شئت من هذي الأديان

أعبد حتى الأوثان

لكن معذرةً

لا تنس واذكر أنّك إنسان

بلى لقد غيّب الموت الجسد، لكنّ عمّي حسين لم ولن يشيّع لمثوىً أخير.

لعمّي حسين الرحمة ولأهله ولشعره طول البقاء.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .