إبراهيم طه: أبو راشد حسين مهنّا في ذمّة الله يجمع الضدّ إلى الضدّ

شاركت في واجب العزاء. وهو أقلّ الواجب. في أرض البقيعة العريقة التقيت في ربعه العامر بأهله وناسه. تحدّثنا عن حسين مهنّا الشاعر وعن “أبو راشد” الإنسان. عدّدنا، بقدر ما تسمح به زيارة تعزية، بعضًا من مناقب الرجل ومفاخره. قلنا بعض أشياء عن أخلاقيّاته الفاضلة وإنسانيّته الفائضة. قلنا بعض أشياء عن عشقه للّغة العربيّة، وحرصه عليها، وذوده عنها. قلنا بعض أشياء ولم نقل من الأشياء إلا ربعها أو أقلّ. سيذكر التاريخ هذا الرجل الأصيل بإنسانيّته وشاعريّته وانتمائه لعروبته ووطنيّته. كان حسن المعشر أبو راشد لطيفًا طيّبًا خلوقًا صاحب واجب. كان ليّنًا لكنه لم يكن رخوًا.

وكيف يجمع أبو راشد بين اللين والصلابة؟ من قرأ شعر حسين مهنّا وجده صلبًا في مواقفه السياسيّة. صلابة بثّها أبو راشد ونثرها في كلّ مجموعاته. صلابة قد سطعت بصفة خاصّة في قصائده عن الانتفاضة. في مجموعته “على سرير أبيض” يرصد أبو راشد تجربته مع السكتة القلبيّة. ولم يكن وقتها قد تجاوز الخمسين إلا بعامين اثنين. حين أجرى له الطبيب فحصًا قبل العمليّة الجراحيّة وأخبره بما أصاب قلبه من تضخّم كتب أبو راشد يشهد على نفسه:

“حرّرني الطبيب من جهاز الإكو وقال:

إنّ قلبك كبير

تبسّمتُ وقلت:

عدمته إن لم يتّسع لهذا العالم!

لم يفهم .. وتابع:

وقلبك ضعيف!

لم أفهم .. وقلت:

لستُ المقداد بن الأسود ولا زيدَ الخيل

ولكنّي لم أعرف الجبن يومًا

وما مرّ بي يوم إلا ودمي على كفّي.

لم يفهم .. تبادلنا دهشةً بدهشة

بعد حين عرفتُ أنّ لغة الأطبّاء

غيرُ لغة الشعراء”

 

لكنّ في هذا العجالة اللاهثة أكتفي باستحضار رقّته وإنسانيّته وانكسارات روحه وانحناءات قلبه الكبير. حين عاده والده، رحمهما الله، وهو في الطابق الخامس في مستشفى الكرمل، ليطمئنّ على صحّته، بكى هذا الشيخ الجليل وانتحب مثلما لم يره وليده ينتحب من قبل!

“ما رأيت أبي ينتحبُ إلا أمس

هنا على سريري الأبيض

دموع أبي

تسيل فتبلّل لحيته الجليلة الملحاء

وتجفّف مصادر فرحي

وقد أنجو من السكتة القلبيّة

لأموت غرقًا بدموع أبي!!

آهٍ من دموع أبي..!”

 

حين قرأت هذا المقطع دمعت عيني وتذكّرت قول محمود درويش في قصيدته إلى أمّي:

“وأعشقُ عمري لأنّي

إذا متُّ

أخجل من دمع أمّي!”

 

ما أشبه هذا بهذا! هذه هي جبلّة الشعراء. ومن قصائده التي كتبها أبو راشد بدفق القلب قصيدته “ألا ليت لي خافقًا من خزف!!”. كتبها لابنته نبيلة عشيّة زفافها:

“بنيّةُ!!

مهما ابتعدتِ..

تظلّي بصدري ضلعًا لصيقًا

لقلبٍ يرفّ على مقلتيكِ

رفيف النسيم قبيل السحر”.

 

رحم الله ترابك يا أبا راشد. ستظلّ بصدورنا ضلعًا لصيقًا.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .