عازفة البيانو… بقلم: حوا بطواش

20-jpg-9079144503211619

لم أنتبِه متى اعتلتِ المنصة، جلستْ وبدأتْ عزفها في تلك الأمسية، فقد كنتُ مأخوذا في حديثٍ مع صديقي كمال، الذي التقيتُه من جديد قبلها بيومين، بعد خمسة عشر عاما من الغياب. دعاني للقاء في ذلك المطعم وبنبرة غامضة أضاف أن لديه مفاجأة لي. خفتَتِ الأصوات،خيّم السكونُ على المكان وانجذبت العيوننحو عازفة البيانو.

انبعثت نغمات «سوناتا لضوء القمر» بعذوبة متناهية، تهزّ أوتار القلوب، حملتْني في ثوانٍإلى دنيا بعيدة، رائقة، جميلة. كنتُمشدوهًا. حتى كمالانقطع عن ثرثرته لا محالة، استغرقفي الصّمت ومن حين إلى آخر أرسل نحوي نظراتٍ غريبة لم أعرف تفسيرها.

دوّى المكان بتصفيق طويل بعد أن أتمّت عزفها، وعندها فقط، عندماقامتْعازفة البيانو من مكانها وانحنتْ برأسها شاكرة الحضور… عرفتُها! كانت هذه حنين.

جلس كمال موجّهاإليّ نظرات تشيبالاستمتاع. «مفاجأة جميلة، أليس كذلك؟» قال.

تأمّلتُها وهي واقفة هناك، جنب البيانو، بفستانٍأحمر، لامع، أنيق.قوامها ما زال رشيقا كما كان دوما، شعرها الأسود طويل، غزير، يغطّى كتفيها، وملامحها هادئة، رقيقة، بات يشوبها شيءٌ من الحزن. ابتسمتْ بحياءٍ ممزوج بالكبرياء، وسرعان ما هبطتْ من المنصة واختفتْ وراء الكواليس.

«لماذا أردتَ أن ألتقيها؟» سألتُكمالمتعجّبا.

«لأنني أعرف كم أردتَ فعل ذلك قبل سنوات.»

«تغيّر الكثير من حينها.»

«شيءٌ واحد لم يتغيّر. أنت.»

«حتى أنا تغيّرتُ.»

«ما زلتَ وحيدا.»

لم أرُد. بعد لحظات، سألته:  «متى التقيتَها؟»

«منذ أقل من شهر. جئتُ إلى هنا مصادفة ورأيتها.»

«إذن، فقد عادت.»

«نعم. عادت.»

 

*   *   *

منذ تركتْ القرية وسافرت إلى فرنسا لدراسة الموسيقى لم أرَها. كانت موهوبة جدا. سمعتُ أنها تزوّجت هناك وتركت دراستها… ولكن لم أعرف أكثر من ذلك.

كانتفتاة جميلة جدا، رقيقة، ذكية، وكثيرون من الشباب كانوا يتوقون لابتسامة صغيرة من شفتيها، طموحاتهاكبيرة، مستقبل باهر ينتظرها… وأنا… كنتُ أتوق للتحدّث إليها، لدعوتها ربما على فنجان قهوة… في الليل، راودتني في أحلامي، وفي النهار، رافقتني في أفكاري،… ولكن… ماذا كان لديّ لأقدّمهلها؟ كنتُ مجرد شاب بلا مواهب… بلا مال.

*   *   *

منذ ذلك اليوم، بدأتُ أرتاد المطعم كل نهاية أسبوع، أستمع إلى عزفها، أتأمل وجهها الرقيقوابتسامتها الساحرة. تعجبتُ: ترى،لماذا عادت إلى البلاد؟ بتُّ أتوقللتحدّث اليها.

تحدثتُإلى صاحب المقهى حول رغبتي بذلك، فقال لي إنها لا تجالس الزبائن، وحين قلتُ له إنني أرغب فقط في التعبير لها عن إعجابي بعزفها، قال: «يمكنك أن تكتب لها ذلك في رسالة قصيرة وأنا سأتكفّل بإيصالها لها.»

وفي اليوم التالي، كتبتُ لها:

في عزفك الفرح

في وجهك الهدوء

وفي قلبي الفضول

نعيم

 

ومعها قررتُ أن أرفق باقة من الورد الأحمر… ورقم الهاتف.

* *   *

 

بعد أيام، بعد أن أتمّتْ عزفها وهبطت من المنصة، وإذ كنتُ جالسا بمفردي أرتشِف قهوتي… فوجئتُ بها. «نعيم؟»

التفتُّ إليها. كنتُ عاجزا عن النطق من فرط دهشتي.

قالت: «أرجو أنني لا أزعجك.»

«لا، أبدا.» قلتُ ودعوتُها للجلوس في المقعد المقابل.

جلست أمامي، آسرة بجمالها. قالت: «شكرا لك على الورد… وعلى الرسالة.»

ابتسمتُ لها. «شكرا لردّك.»

«الحقيقة، في العادة، لا أرد. ولكن…» لم تُكمِل.

طمأنتُها: «لستِ مضطرّة أن تشرحي.»

خيّم علينا الصمت. ناديتُ للنادل وطلبتُ لنا القهوة.

«عزفك جميل جدا كما كان دائما.» قلتُ لها.«ما زلتُ أذكر كم كنتِ موهوبة وطموحاتك كبيرة.»

أومأت برأسها علامة الإيجاب، وابتسمتْ قليلا. «الطموح كبيرٌ،» قالت. «ولكن الحب أكبر.»

«حقا؟» تعجبتُ

«طبعا.» ردّت جازمة. «ألا توافق معي؟»

«لا أدري.»

«فهمتُ.»

«ماذا فهمتِ؟»

«أنك لم تجرّب الحب.»

ضحكتُ. «ربما.»

لم ترد، وأنا فكّرتُ في زواجها العاجل وتنازلها عن طموحاتها ببساطة.

فسألتها: «وهل يستحق الحب كل هذه التضحية؟»

فاجأها سؤالي. وبعد تفكير طويل، قالت: «نعم.» ثم أضافت مؤكّدة بصوت حازم: «طبعا.»

ارتشفتُ من فنجاني وأنا أحدّق في عينيها وأحاول قراءة أفكارها. لم أقُل شيئا. سمحتُ لها بالتفكير معمّقا في قولها.

بعد دقيقتين، قلتُ لها: «الحبُ وهمٌ.»

«ولكنه وهمٌ جميلٌ.»

ثم أخبرتني أنها تزوّجت رجلا فرنسيا وقعت في حبه خلال دراستها. كان يتعلم معها وكان موسيقيا موهوبا. تزوجا وأنجبا ابنة، وقد قرّرت ترك دراستها لأسباب مالية، فقد انقطع عنها أهلها بسبب زواجها من الفرنسي. قبل عام مات زوجها في حادث سيارة وقرّرت العودة إلى البلاد، ولكن ليس إلى القرية. إنها تعيش في المدينة، تعمل عازفة بيانو وتربّي ابنتها التي تبلغ من العمر الآن عشر سنوات، لوحدها.

«وماذا عنك؟» سألتني.

أخبرتها أنني أعمل سائق باص، ما زلتُ أعيش في القرية… و… ما زلتُ لوحدي. لم أقُل لها ذلك، ولكنها ربما فهمت لوحدها.

«أنا سعيدة بلقائنا.» قالت ثم أخذت تنبش في حقيبتها.

وفجأة، أحسستُ بيدها في يدي. «هذه بطاقتي.» سمعتُها تقول وهي تضعها في يدي. «اتّصل بي.»

اضطربت أنفاسي داخل صدري وأنا أحسّ بلمستها الدافئة. سحبتُ يدي بسرعة وشكرتُها.

***

مضى أكثر من شهر على لقائنا. أستعيد حديثنا في ذهني كل صباح وكل مساء، صورتها البهيّة ماثلة أمام عينيّ، أتأمّل في البطاقة… وأفكّر.

 

كفر كما

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .