ملحق لمقالات الحرب على فلسطين: أن نــكــــون … أو لا نــكــــون// سميح غنادري

 

داعش هي حماس. وحماس هي داعش. وبما ان داعش تسعى لإقامة خلافة اسلامية، وايران جمهورية اسلامية، ايران اذاً هي داعش. ومحمود عباس يقيم حكومة وفاق مع حماس، السلطة الفلسطينية هي داعش. وابو مازن يُنْكر الكارثة التي جلبتها النازية على اليهود. وكل هؤلاء يريدون القضاء على اسرائيل وعلى الغرب بما فيه امريكا. واسرائيل تخوض حرب دفاع عن النفس الى جانب العالم ضد عصابات الارهاب الاسلامي.

وأما جيش اسرائيل فهو “الاكثر اخلاقية في العالم” (؟!) لكن الداعشي ابو مازن يتهمه بانه يشن حرب إبادة بحق الفلسطينيين، علماً بأن اسرائيل تريد السلام وتسعى لتحقيقه مع دول عربية في المنطقة… والعائق هي ايران وقنبلتها الذرية ولذا يجب ردعها.

هذه، اعلاه وباختصار، فحوى خطاب نتنياهو في الجمعية العامة للامم المتحدة بتاريخ 29 ايلول. وهو نسخة محتلنة وتاسعة عن ثمانية خطابات سابقة له في الامم المتحدة. وجاء في الميثولوجيا اليونانية ان “الموجة التاسعة” في الهيجان والموجان البحري هي الاكثر دماراً وتخريباً وقتلاً – (الاغريق القدامى معذورون في هذا، لانهم لم يسمعوا يومها عن موجة “الجرف الصامد” على غزة فلسطين بكل قتلاها وجرحاها وهدم بيوتها).

تساءلتُ، وانا استمع للخطاب، الا يوجد من يعلن “الحجر الصحي” على هكذا نِتِن – ياهو في مصحّ للامراض النفسية بصفته ضفدعاً منفوخاً يملأ فمه وبطنه قاذورات وهواء فاسداً ينفثه على عالم باسره؟

النـعـجــة دولا … وبـغــل الحـنـانــة

وقفت البشرية مشدوهة امام عظمة العلم حين جرى استنساخ النعجة “دولا”. لكن قاعة الجمعية العامة لللامم المتحدة كانت شبه فارغة وقتلها الملل وتثائبت حين استنسخ تَيْس النعاج نفسه بنفسه للمرة التاسعة. ولم نستمع للتصفيق، وقوفاً، الا لبعثة ضيوف من حاشية “خراف – سحيجة” جلبها “الراعي” معه.

اسرائيل الرسمية بفكرها وممارساتها الصهيونية الكولونيالية هي خارج امم ودول العالم المتحدة وقيَمها. لكن رئيس حكومتها، امام العجز العربي الرسمي، يسمح لنفسه ان يتصرف كامبراطور من الاباطرة والملوك القدامى علماً بأن حدود امبراطوريته بالكاد تغطي بقعة صغيرة على كرة ارضية فسيحة. ويسمح لنفسه بان يعظ ويعلّم ويأمر رؤساء العالم، بمن فيهم الرئيس الامريكي، كيف عليهم ان يتصرفوا.

هو يلقي خطاباً مليئاً بالتخويف وبالرعب والارهاب والحصار وخطر الاحتلال والابادة بحق اسرائيل من قبل اعدائها. ويغيب عنه كلياً اي افق، واي حلم وأمل. كذلك اي استغلال وانتهاز لفرص يتيحها الوضع العالمي المتغير، وتجربة مرور 66 سنة من صراع دامٍ. وما من جديد في هذا الخطاب الا ان “المعلّم” الرسّام دخل الصف الدراسي “لتلاميذه” حاملاً هذه المرة وسائل ايضاح جديدة. لم يحمل معه، كالسابق، لا خارطة معسكر الابادة اوشفيتس ولا صورة القنبلة النووية الايرانية راسماً عليها قرب اشتعال فتيلها، وانما صورة لمنصة لصواريخ لحماس موضوعة في حديقة عامة. فاسرائيل في مبادرتها للحرب مهددة وتدافع عن نفسها (لا عن دوام احتلالها).1

“بغل الحنانة” يدور في الدائرة اياها، وبصفاقة اشد صفاقة من السابق. هو لم يذكر حتى التزامه الشفوي السابق بحل الدولتين، بل اكد انه لا يوجد شريك فلسطيني للسلام – ولا حتى ابو مازن. ولمّح تلميحاً انه مستعد لاتفاقات سلام مع دول عربية اولاً، ومعها يتحدث فيما بعد عن امكانية سلام مع فلسطين.

مـن يـقــود الـى إزالــة دولــة اسـرائـيــل؟

لم تأخذ دول العالم كلها خطاب نتنياهو بالحسبان. واعتذر مسبقاً عن كلمة “كلها” لاني لم اعرف بعد موقف ميكرونيزيا من الخطاب. فقط في اسرائيل، التجسيد “لمملكة الله على الارض” و “لحق شعب الله المختار” ببناء دولته على خرائب شعب آخر هذه ارضه، فاضت قطعان قبيلة اليمين المتطرف وشبه الفاشي والابرتهايدي بالاشادة بالخطاب الالمعي لرئيس حكومتها.

اليكم بعض هذا “الفيضان”: نتنياهو خطيب فذ يكتب خطاباته جيداً وباختصار، وبِجُمل قصيرة رنانة سهلة الالتقاط، وتحتوي على رسائل محددة وحادة، وعلى فن الصياغة واللعب بالكلمات. وهو مبدع في الالقاء وفي اللثغة الامريكية للانجليزية، ويعرف متى يرفع صوته ومتى يخفّضه ومتى يقرأ من الورقة ومتى يشيح عينيه عنها، ومتى يدخل فراغات صمت بين انسياب تواصل جمله، ومتى يضرب بقبضة يده على الطاولة او يلّوح بيده في الفضاء… الخ

اصبحت القضية فن الخطابة لنتنياهو، علماً بانها لا تصلح الا لتعليم فن الكذب والافتراء والتهويل والتمثيل. هو حقاً كراكوز ومهرج، لكنه شاخ واصبح ممجوجاً. وهو حقاً ممثل لكنه افلس. وهو راقصة بطن لكن اكلت سيماء جسدها التجاعيد. وهو قد يصلح ليكون “كوبيرايتر” لشركة تسويق تجارية لا لدولة، لكن بضائع شركته لا تجد من يقبل شرائها. وهو حقاً تلميذ نبيه، لكن ليس لزعماء اسرائيليين عرفوا في عقود سابقة محدودية انفلات القوة، وانما لمعلّمه الاول شمير الذي قال: “البحر هو نفس البحر، والعرب هم نفس العرب، والامم المتحدة هي نفس الامم المتحدة، وما لا يؤخذ بالقوة يؤخذ بالمزيد منها، ويجوز الكذب في سبيل مصلحة اسرائيل”.

“على حرابك تعيشين يا صهيون” – هذا ما استوعبه نتنياهو من “التوراه” لا قِيَم: لا تقتل، لا تسرق، لا تزن. وحتى من غولدمئير لم يستوعب الا “لا يوجد شعب فلسطيني. واستيقظ في الليل مذعورة حين احلم كم من طفل عربي ولد هذا اليوم”. وهو قاد مظاهرات مع شارون جرى فيها حمل صور رابين مرتدياً كوفية وعقالاً فلسطينياً و بدلة “الاسس اسس” النازية. فكيف لا يتهم ابو مازن وشعبه بكونهم من سلالة النازيين؟

حين كنتُ طالباً في الصف الثامن الابتدائي شاهدتُ فيلماً هندياً ما زال يقفز لمخيلتي كلما استمع لخطاب لنتنياهو. يقوم الممثل راجي كابور في الفيلم بالوقوف على راسه، مقلوباً راساً على عقب … حتى يرى العالم على حقيقته.

ويأخذني خيالي الان، استمراراً لذلك الفيلم، الى انه لو جاءتنا مخلوقات من الفضاء الخارجي واستمعت الى خطابات نتنياهو لاعتقدت ان دولة فلسطين النازية والداعشية تقوم باحتلال دولة اسرائيل، وبتشريد اهلها لاجئين في بقاع الارض، وبشن كل سنتين او ثلاث حرباً عليها او حملة عسكرية بهدف القضاء على بقاياها.

لكن لا يمكن ان تكذب على كل الناس كل الوقت. وجدلية فائض القوة في عالم متغيّر قد تقود الى نقيضها، الى فائض ضعف يطيح بك. وفي عبرة انهيار جنون عظمة القوة لدول سابقة – بما فيها انهيار “امبراطورية” المانيا النازية، المانيا هتلر وغوبلز – عبرة لمن يريد ان يعتبر. ولا اقول بهذا ان اسرائيل دولة نازية وتشن حرب ابادة عامة بحق الشعب الفلسطيني.

ولكن اقول ان الجرائم الجماعية لاسرائيل بحق فلسطين – شعباً وحجراً وشجراً – لن يكون بامكانها إبادة القضية الفلسطينية. واضيف ان المعرّض للزوال، على المدى التاريخي المنظور، هي اسرائيل اذا ما استمرت بانتهاج سياستها وممارساتها الصهيونية الاجرامية بحق فلسطين. سيتهمني قطعانها باني ادعو لازالة دولتهم من الوجود. علماً باني اقول ان سياسة حكامها، بمن فيهم نتنياهو، ستؤدي الى ازالتها. فانا الضحية الفت نظركم يا جناة بانكم ستقضون على دولتكم دون ان تستطيعوا تخليد وضعي كضحية دائمة محرومة من حقها بالاستقلال وبناء دولتها

الســلام الاسـرائـيـلــي يـعـنــي

الاسـتـســلام الفـلـسـطـيـنــي والـعـربــي

حكام اسرائيل، لا السلطة الفلسطينية، ليسوا شركاء لصناعة السلام. لقد وافقت فلسطين على اقامة دولتها على 22% فقط من ارضها التاريخية. وهذه مساومة لم يقبلها اي شعب في العالم جرى احتلال وطنه وتشريده. والدول العربية قاطبة وافقت على المبادرة السعودية وتبنتها في مؤتمر القمة في بيروت، واستعدت ليس فقط للاعتراف باسرائيل في حدود ما قبل الخامس من حزيران 1967، وانما لاقامة علاقات سوية معها.

وابو مازن “الداعشي” و “المتنكر للكارثة النازية” و “الارهابي الديبلوماسي” نادى في خطابه في الامم المتحدة ليس بإبادة اسرائيل، وانما بإقامة سلام عادل ودائم معها على اساس الشرعية الدولية وقرارات الامم المتحدة، مع تحديد جدول زمني للتنفيذ لا يتعدى سنوات ثلاث. هذا ما توصلت اليه القيادة الفلسطينية، وان كانت متأخرة، بعد 21 سنة مفاوضات عبثية مع اسرائيل.

لذا ما جنون العظمة الاسرائيلية، كما تجلى في خطاب نتنياهو، الا تعبير عن مأزق الطريق المسدود لسياستها. واذا كان نتنياهو صادقاً ومقتنعاً حقاً باستراتيجيته كما بانت في خطابه، من المفروض به الا يرسل وفوده للتفاوض مع الفلسطينيين ومع حماس ايضا في القاهرة، والا يوافق على اشراف السلطة الفلسطينية على المعابر وعلى إعادة إعمار غزة. وإنما عليه ان يشن حرب إبادة على فلسطين سلطة وشعباً، وان ينفّذ ما هدّد ووعد به منذ سنوات وحرق استعداداً له ملايين الدولارات … اقصد شنّه للحرب على ايران.

لا تريد اسرائيل سلاماً مع الفلسطينيين ومع الدول العربية. هي تريد استسلاماً منهما يقوم على اساس التنكر لشرعية الحقوق الفلسطينية والعربية. والا كانت قد وافقت على المبادرة العربية وتفاوضت بشأنها. وهي لا تريد سلاما على اساس الانسحاب لحدود حزيران 1967 وحق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني وضمان حقوق اللاجئين، وانما تريد زيادة الاستيطان وضم اكثر ما يمكن من الارض الفلسطينية باقل ما يمكن من العرب عليها، بما فيها القدس العربية.

لذا لم يظهر نتنياهو في الامم المتحدة كصاحب لبرنامج يعرضه على العالم للحل الممكن. وأميل للاعتقاد بانه ذهب الى هناك ليخاطب من على منبر الامم المتحدة مجتمعه الاسرائيلي بيمينييه ومتطرفيه. اذ كل ما يقلقه، في ظل استمرار العجز العربي الرسمي، هو ضمان استمرار حكمه وهيمنته على حزبه ومنع تصدع ائتلافه ومنع خلق بديل له من يمين اكثر تطرفاً. واذا كان خطابه هذا الفارغ المحتوى قد ضمن له هدوء في البيت وعضو برلمان إضافي او اكثر في انتخابات قادمة… يكون قد شعر بانه قام بالمهمة في نيويورك على اكمل وجه.

وستنسى القبيلة الاسرائيلية التي شوهتها  ولادتها بالخطيئة ودوام احتلالها لبقية فلسطين لمدة 47 عاماً حتى الآن، انه حتى الرئيس الامريكي لم يخصص للقائه بنتنياهو الا اربعين دقيقة. ورفض كل بهلوانياته عن داعش وايران وحماس وابو مازن، وقاطعه قائلاً: ما هو برنامجك للسلام؟ واعقب الناطق باسم البيت الابيض اللقاء ببيان جرى فيه اتهام اسرائيل بانها موضع شك بخصوص نيتها بتحقيق السلام، وانها بممارساتها تبعد عنها حتى حلفائها الاقرب لها.

المـطـلــوب فـلـسـطـيـنـيــاً

لذا المطلوب من فلسطين اولاً الالتزام بما تضمنه الخطاب الجيد والمسؤول للرئيس الفلسطيني من برنامج فلسطيني، وان تتجاوب حماس مع هذا البرنامج ومع حكومة الوفاق ومع المصالحة ليس لفظياً وانما قناعة وممارسة ايضاً. والمطلوب من قيادات الدول العربية ان تجعل البرنامج الذي طرحه ابو مازن برنامجاً شمولياً لها جميعاً واستمراراً لمبادرتها العربية، والا ستعيد هي الاخرى النظر بعلاقاتها مع اسرائيل.

والمطلوب، ثانياً، الانضمام الفلسطيني الفوري لكل الاطر والمنظمات الدولية بما فيها اتفاقية روما والتوجه لمحكمة الجنايات الدولية ضد اسرائيل. والمطلوب، ثالثاً، المقاطعة لاسرائيل وجعل حملة المقاطعة حملة عالمية واسعة وعلى مختلف الصعد بما فيها اولاً الاقتصادية والتجارية. والمطلوب، اخيراً وليس آخراً، انتهاج طريق المقاومة بشتى اشكالها الممكنة والأفضل، بما فيها اولاً المقاومة السياسية الجماهيرية والمدنية على ان تكون هذه نتاجاً لاستراتيجية جماعية واحدة وموحدة لكل الفصائل والاطياف والاحزاب.

اما العودة لطريق المفاوضات العبثية مع عدو لا يفاوضك الا بالطائرة والصاروخ وبالدبابة وبالاستيطان وبالتنكر للشرعية الدولية، ولا يفهم الا لغة القوة، فهو مضيعة للوقت. قيل ان المؤمن لا يُلْدغ من الجحر مرتين. لكن شعبنا لُدغ عشرات المرات بدءً من وقف ثورة ال 36 في القرن الماضي لأن “حكومة جلالتها وعدتنا بدولة”، انتهاء بوعود امريكا و “الرباعية” في الامس القريب. فإما نعود لنكون حركة تحرر وطني وإما لا نكون، تلك هي القضية!

Samih.gha@gmail.com

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .