خريف بقلم: الكاتبة الفلسطينية سعاد شواهنة ـ جنين  

1

تشق صباحها بابتسامة دافئة، ترسم نفسها في محيط الوقت روحا عابقة بالحياة، لا يشوهها الانتظار، إذ يشقها الفقد والغياب، فتحت نافذة غرفتها الهادئة، لتعيش روح صخب الجوار، يرتدي الصبية ثيابهم المدرسية، ويهملون كثيرا من التفاصيل ليكونوا على هذا القدر من العشوائية في اختيار الأحذية، وتسريحات الشعر، وإذ تكون المسافة بين جدارين على هذا القدر من الضيق، يجد الأولاد تلك الفرصة المشاغبة لتشابك أكفهم وأكتافهم وأيديهم، لتصنع سورا آخر متحركا صاخبا، على أنه لا يترك ذلك المجال للعابرين، ولسيدة تقف في زاوية نافذتها للإصغاء لهذا الصخب.

في الشارع الضيق يجتمع الحلم والأمس واليوم، ولا تجد لنفسها بين الصبية العابرين ابنا صغيرا تصرخ من شباكها إليه عله يعود إلى المنزل منتظرا أن يكبر ليحمل الحلم ويفتش عنه بين الدفاتر والأقلام. أبواب المحال التجارية البسيطة تتضارب متعالية، يصطدم بعضها بالآخر بانتظار يوم جديد.

لا تدرك النفس تلك المسافة بين الحلم وجسور تمدها نحو أمل تصنعه في محيطها الساكن، هكذا يغادرنا الوقت، يطوي بقسوة الكثير من الوجوه، يرسم لبعضها مكانا آخر في الغياب، ويحدد جغرافية بعيدة لبعضها الآخر وتبقى الروح أسيرة الذاكرة، المرايا، الحلم، وغد لا يأتي وصورة لا تكتمل.

تصغي لضجيج يشتعل في نفسها، ويرتد إليها صدى صوت الشوارع، وأنفاس العابرين، بشكل أنقى مما تعكسه عقارب ساعة الحائط، وأخرى تركت في معصمها بعبث لا ينسجم مع رداء نومها المنسدل بعشوائية دافئة فوق جسدها البارد. طوت شعرا طويلا ينحدر في محيط خصرها، ورفعته بزهد بالغ، وعقدته هاربة من تفاصيل المرايا وما تعكسه الصور.

بعثرت الوقت في أرجاء منزلها ترتب زواياها، وتمسح ما علق من غبار على أواني الزجاج، والتحف النحاسية، وبعض القطع الخزفية، لقد ترك لها مجد أن تختار الأقمشة التي تريد لتجهز أثاث منزلها، وألوان جدرانه، وأنواع الأواني والقطع الزجاجية، تمنت عليه أن يختارا معا عدد من اللوحات والبراويز التي تزين بها الجدران، وعدها أن يذهبا معا إلى السوق ليراها تنتقي ما تشاء وهو يبدي إعجابه بكل ما تلمسه عيناها، تبتسم وتقول:” جميل أن يجتمع ذوقنا على الشيء ذاته.”

اتصلت به ذاك المساء، رن هاتفه طويلا، لكن موسيقى  صوته لم تكسر رنين هاتفه، وبقلق يجتاح روحها أعدت نفسها صباحا وأعادت الاتصال به مرارا، دفعها القلق للاتصال بوالدته،انفقت أسبوعا تقنع مجد بأن اختيار أثاث منزلها لا يحتاج إلى إجماع عائلي من أفراد عائلته وعائلتها حتى الجد السابع، كانا سيذهبان معا هي وهو، لكن أمه أجابتها باكية، كلمات قليلة استطاعت سماعها من بين شفتي أم تحترق باكية، قوة عسكرية اقتحمت المنزل فجرا، قضى مجد عاما في السجن، وهي تغازل الانتظار، وتعد أروقتها، وتصفها له في كل مرة تحتال على العمر وتزوره فيها، استعارت هوية أخته، وحصلت على تصريح للزيارة، يمر الوقت صعبا في الانتظار، بطيئا بحجم الشوق لحالة أخرى، بدفء بسمة، وصخب لا يطفئه العناق.

الكثير من الأصحاب، الأهل، الجيران، العابرين، الشوارع حتى الجدران احتفت به علقت صوره، وغنت مكبرات الصوت له، أصحاب الياقات المشدودة اعتلوا المنصات وألقوا الكثير من الخطابات احتفالا بخروجه من السجن، أما هي فكانت تعد الوقت ليكون صاخبا بها به، بالأمنيات.

مر يوم زفافها عابقا بالأصوات، التفاصيل الدقيقة، بالألوان، عاشت الدفء والانتظار والصخب بعيون لامعة ووجه ثرثار، وقضت فجرها وحيدة، بصورة لم تكتمل، بشغب طفلة طلبت إليه تعليق اللوحات والصور على الجدران، لوحات لم يسعفها الوقت لتنتقي مكانا لها، كان يعرف أنها تدعي ذلك، لأنها أرادته أن يختار شيئا يعكس فيه روحه، لم يعلق للوحات ردها متذمرا وعاد إلى روحه، إلى روحها.

كان شغب الآلة العسكرية أكثر صخبا من شغب يشعلانه، صار مجد بعيدا، في سجن يجدد سرقة عمره مررا في كل مرة تقترب فيها عودته، ننتظره وتتجدد أحكام سجنه الإدارية.

تعد نفسها للوقوف اليوم بين عدد قليل من الناس، يعتصمون في فية شمس خريفية، أمه ستقف تحمل صورته بين عدد قليل من النساء، ستسمع صخبا وأحاديث جماهيرية لا تعد بالكثير، أما هي فكم تتمنى لو أنها تستطيع أن تحمل لوحاتها المتروكة في زاوية المنزل وتقول:” لم يتسن لمجد أن يعلقها في المكان الذي يحب، شغب الآلة العسكرية كان أعلى.”

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .