أور سليم أو سليم الضو // جواد بولس

לכידה

خسر صديقي رهانه ونجحت، على عكس ما تمنّى وتوقّع بسبب تعبي، أن أصل إلى مبنى جمعية الشبان المسيحية، القائم في شارع الملك داوود في القدس الغربية. كان المساء في القدس رتيبًا، لا تحمل رياحه أيّة بشائر للناس، غير ما تعد فيه ملائكة حيرى، أهلَ أرضٍ تنزف قداسة حمراء وسرابًا: عيشوا قليلًا وناموا قليلًا. حاولوا أن لا تحلموا وأن تفيقوا كما يفيق القانعون أو البؤساء، وإن لم تفيقوا، فافرحوا لأنكم أخيارٌ بررة وشهداء.

قاومت سطوة الكسل، كي أشاهد مسرحية “ساغ سليم”، وقد أوصى بها العديد من أصدقائي وصنفها أهل الفن والأدب، بالمونودراما، أو مسرحية الممثل الواحد.

تركنا “بيت حنينا”، أمامنا يتغانج  خيط من الشمس، كحاجب مغنية غجرية، وفي دقائق معدودة، وصلنا منطقة المصرارة، التي بدت على خدّيها صفرة كتلك التي تسبق النعاس أو المرض، حجارة السور كانت كبيرة، وسواد الليالي عليها أوضح من ذي قبل، قلّة من الناس تدخل من باب العامود، على يميني بدأ يتسامى صرح “النوتردام” العظيم، ليشهد أن القدس لم تكن دومًا عروس عروبتنا، وما أن قطعناه بدأ الغرب ينبلج، وأمامنا تنفرج وتتراقص مدينة، بصخب وبكثير من الحنّة والطيب، حتى بدت كعروس تفيض أنوثة في ليل زفتها.

حارة “ماميلا” (مأمن الله)، التي تركتها النكبة بيوتًا مهجورة وخرائب، صارت كجبال من صوان أملس، وذلك بعد أن أحالتها أحلامهم والنهم إلى مجمّعات سكنية ما بعد عصرية، وأسواق تزاحم “مولات” العرب والعجم والسنسكريت. نسير ببطء بمحاذاتها، ونلج شارع الملك داوود الذي ما زال يشهد على حكمة رب قايين، وعلى الفارق بين الديناميت ورائحة النار، وبين عصا الراعي ورائحة الندى!

كان انضباط من حضروا لمشاهدة المسرحية لافتًا، فقبل الثامنة بدقائق معدودة بدا أن الجميع على استعداد، وكأننا تجرّعنا ما سقتنا إياه روما، حين أوصت أغرابها أن يتصرّفوا فيها كأهلها الرومان. فهنا، في حضن الحضارة، نصير، نحن عصافير الشرق، أسيادًا للنظام وعبيدًا للكياسة والقانون ونعيف المزاول وساعات الرمل.

على يمين المسرح يتأبط، حبيب شحاده، عودَه. في وجهه وسامة طافحة وغبطة، فهمنا لاحقًا أنها قسمات فرح بمولوده الجديد “سري”، وفي الزاوية اليسرى يجلس سليم ضو على حقائبه. من ثنايا جسده يسيح قلق، كلّما تفرّستُ فيه اكتشفتُ أنه للغضب أقرب، فلقد كان ينتفض برقة، كفرخ نسر يستعد لطيرانه الأول.

لم ترفع ستارة ولا نادى المنادي، فالقصة، أن “سليمنا” لن يمثّل، كما توقع، ربما، بعضنا، بل، جاء ليقضي معنا ساعتين من “ملح وزعتر”، ومسرحه، بالحقيقة،حياتنا، ورحلته، هكذا سيفهمُنا دمعنا والابتسام، رحلتنا.

استفزني، ما شاهدته  وأشغلني، كما يليق بالإبداع، وأراحني كما يُنتظر من ترفيه هادف وراق.

فعماد، الذي ولد في البعنة، يرفض أن تكون بعنته في الجليل الأسفل، لأنه يؤمن أن جليله عال وحر.يولد في عائلة وادعة وفقيرة. صحته متضعضعة، ويصير، بلغة الفلاحين، طفلًا “موَتْوِتًا”، فتخشى عليه والدته وتذهب به الى الشيوخ، أسياد فن التهليع، فيجزم هؤلاء أن العلّة في اسمه، ويقترحون أن تختار العائلة لضمان نجاته، إمّا: فكتور أو وليم أو سليم، بدلًا من عماد.

وتختار العائلة “سليمًا”، فما لفكتور ووليم بالحجارة والحجّارين، وأهله يعملون، كما يعمل معظم البعناويين، في الحقل والمحجر، ومثلهم كانوا من الحمر الميامين.

وتكرّ قصة ذلك السليم التي هي قصتنا.

في البداية نشم روائح النكبة التي تزكم، فتليها قصص القمع  في زمن الحكم العسكري، فقصص الشقاوة، والبلوغ والتعب والعشق والرحيل والوطن.

لا أجمل من الواقع، حين يأتيك مرايا تستعيد ذاكرة مهشمة، فكان وهو يحدثنا عن زمن الفقر والقلّة يستثير فينا ذلك الحنين الذي لا يصدأ، إلى شقاوة عذراء، ما زال بعض من عطرها متناثرًا في كل زاوية وزقاق في قرانا وحواكير منازلنا. وحين أرجعنا إلى مدارسنا الابتدائية،استعدنا كيف كنّا نصطنع الفرح في يوم “استقلال دولتنا الفتية” لنكسب من الحرية “لحاءها”.

وككل فنان كبير، نجح سليم، بعد بداية فاترة، أن يسكن في كل واحد فينا أو أن يأخذنا  إلى “جوّاه”، فانتزع من أكبادنا، مرّة تلو المرة، موجات ضحك، سالت أحيانًا، كدموع فرح على ما لامس فينا المعجزات وبقائنا رغم أنف الخيبة، وأحيانًا، بكاءً على ما تكبدّه كبارنا ونحن الصغار من ذل وشظف عيش واضطهاد.

لا أبأس من واقع يواجهك ببواطن عجزك وظلم القدر…

حياتنا كانت حقائب، وكأننا على موعد ورحيل. فسليم، يشقى كسائر أترابه، لكنّهم  يضربون بعصيهم الساحرة الأرض، فيحوّلون التراب ملاعب للأحلام، والوحول ميادين للسباقات والفحولة، ويصنعون، كذلك،من جماجم الحيوانات سيوفًا وخناجر ومسدسات، لتصير بأيديهم جداول ومناجم فرح.

وحيدين تركنا في وطننا. أقلّية صحت على سماء ملأى بالغربان وبيننا تنبت بدايات يأس وفقر،  وينتشر وكلاء للعهد الجديد يحاولون النيل من كل حر وتصيّد كل فالح وبارع. فتلبس الكابتن “جيمي” سليمًا الذي كان، فهلويًا وبارزًا، وساعة كان سليم يضحكنا على خوفه من ذلك الجيمى، وكيف صدّه، تذكر بعضنا “جيميه” والبكاء والقلق، أمّا حين كاد سليم يبكي على كيف أطلق اليهود الرصاص على كلب جارهم في القرية كي لا تنبه الكلاب أهل المطلوبين عند اغارة الجيش والبوليس على بيوتهم ليلًا، ضحكنا لأنه أخذنا، مباشرة، إلى أطراف القرية التي تعلّم على تخومها الأولاد دروسهم في “القصعات” والقرمزة، وعلوم الريح والروائح والجهات.

سليم ساغ، هو أنا أنت والآخرون،

على مدار الساعتين روى/مثل/حكى/غنى/سرد، حكايات كل واحدة وواحد منا، وحكاية عائلة ووالدين فلسطينيين عاشقين بفطرة السنابل، وبقلوب وسيعة، حكيمين كالسواقي وبسيطين كالطين، وعن حكمة فلاحين خبروا أن الأرض بركة، ولكنها تسرق منهم وتغتصب أمام عيونهم، فتيقنوا أن العلم سلاح ومستقبل وبركات.

قد كان سليم، طفلًا، مثلما كنا، وكانت بعنته حمراء مثل لون أبنائها الوطنيين الشيوعيين الناشطين الذين صبغوا بنضالاتهم  علم البعنة وأخواتها بالأحمر،حين تصدوا لموبقات “حكام الدولة العسكريين”.وكان سليم مكافحًا، فتشبث بخياره وتخرج وهو في الواحدة والعشرين من منارة ذلك الزمن، ثانوية “يني يني” في كفرياسيف، وكان حالمًا، فأخذه حظ المجتهدين إلى مدينة الروح والشعر والأنوار وعمل على أهم مسارحها ردحًا من زمن. وكان وكان .. لكنه عاد إلى بلاده ومملكته حيث سهاده تشاطره تاج العزة ومعهما أربع أميرات يعوضنه على ما تأخذ الحياة منه والمسارح. عاد لأنه مثلنا، واقعي وعاشق.

ربما لم تكن هذه أنجح العروض، كما صرّح سليم بعد العرض مباشرة، فقدسنا كانت غائبة وراء أسوار من غبار وتعب وخيبة، وفي أورشليم تعاني  جمعية الشبان المسيحية من برودة مستوطنة وطاغية، ونحن الذين حضرنا صرنا مثل عرب مستغربين، قد يقتلنا الحنين وتردينا الأماني، لكننا بعدنا عن أطراف قرانا وعن دفء كوانينها وعبق طوابينها ووهج وقّاداتها.

لقد استفزتني حكايات ذلك السليم، فضحكت منها حتى البكاء وبكيت حتى الوجع. فحياته هي حياتنا: قصة ما كان واندثر، وقصة ما قد يأتي من مطر. عن صُدف وكفاحات، ضياع وصور، وعن نضالات وخيانات وأذناب ورؤوس، وشقاء ونقاء وولادات وموت وسهر.

إنها حكاية كل “أور سليم” فلسطيني، بقي على أرضه، وأحب شعبه والإنسان والوطن، فصار “ساغًا سليمًا”، تماما كحكايات الضوء عندما يفيض سليمًا كالقمر.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .