“أعطني مسرحًا أعطيك شعبا عظيما”، عبارة ينسبها البعض لوليم شكسبير في حين يعتقد آخرون بأنها تعود لمفكّرين آخرين اختلف المؤرخون في تحديد هويّتهم. وإن يكن شكسبير أو غيره فهنالك أيضاً من يؤمن بأن هذه العبارة مصدرها الحقيقي هو أنّ لدى البشر غريزة التشخيص، ومن هذه الناحية يختلف الإنسان عن الحيوانات الأخرى في أنه أكثر قدرة على المحاكاة، وأنّه يتعلم دروسه عن طريق تشخيص الأشياء، ومن هنا تأتي المتعة التي يجدها الناس في التشخيص.
وبما أن للإنسان غريزة في التمثيل فهنالك متعة ولذة في عملية تحويل الحياة إلى مسرح. وبهذا نستنتج بأن المسرح من أصل الإنسان، ومن رغبته الفطريّة في التّجسيد، ومن خياله الواسع الذي هو أصل الحياة؛ فهو تجسيد لواقع يتّخذ شكل مسرح كبير.على حدّ تعبير شكسبير الذي قال :”الدنيا مسرح كبير، والرجال والنساء ما هم إلا ممثلون على هذا المسرح” وهكذا احتلّ المسرح نقطة البداية لا في تحريك و تطوير الثقافة الشعبية فقط، بل هو مصدر الشرارة التي تلهم الإنسان العطاء و تدفعه نحو الرقيّ الفكري فكان جامعا ولُقّب ب “أبي الفنون”.
تتجسد هذه الأبعاد بشكل متميز من خلال آخر روائع مسرح النقاب في عسفيا ومسرحية “المي ببلاش” للمؤلف: علاء سابا، إعداد وإخراج: صالح عزام، تأليف أغاني: علاء سابا، منعم منصور وتلحين: قفطان عيسمي، تمثيل: أميمة سرحان، صالح عزام، علاء سابا، قفطان عيسمي، مازن حمدان ومنعم منصور.
تدور أحداث المسرحية حول النقاش المستمر بين معسكر الداعمين والمعارضين من أهل البلدة لمشروع ضم بلدتهم إلى رابطة المياه وما يعرف بالتأغيد. إنّ انتماء الجزء الأكبر من الممثلين لأبناء بلدة عسفيا يعطي المسرحية تجسيدًا كاملًا للواقع وللنقاش المستمر بين أبناء البلدة والادعاءات المطروحة من قبل كل من الأطراف لتبرير موقفهم اتجاه المعسكر الآخر.
هذا التجسيد لا يتوقف عند الحوار والادعاءات، بل في تقنية الممثلين في لعب الأدوار وتحديداً شخصية رئيس المجلس السيد وجيه كيوف من قبل الممثل علاء سابا، وقدرته في تقليد حركاته وأسلوبه في الحديث، بل حتى طرق حواره مع العاملين معه في إدارة المجلس إلى درجة الامتياز.
بالإضافة للصراع المستمر بين القوى السياسية العاملة على الساحة السياسية، تعكس المسرحية أبعادًا أخرى للواقع الاجتماعي للبلدة، وتحديداً الصراع المستمر بين الأجيال وما يعرف بالجيل القديم والأجيال الشابة، وما تواجهه المجموعة الأخيرة من صعوبات منها المادية لشق طريقهم نحو عش الزوجية، وهو دور العشاق المخذولين الذي قام به كل من أميمة سرحان والفنان الصاعد مازن حمدان.
بعدٌ آخر لا يقل أهمية تتطرق إليه المسرحية هو غياب إعلام يتعامل مع قضايانا الجماهيرية بشكل راقٍ ونزيه، وهو الدور الذي قدمة الفنان صالح عزام بكونه الإعلامي الذي يغطي الأحداث والنقاش بين الأطراف المتنازعة في البلدة بالرغم من كونه أعمى وأخرس وأطرش، وهنا علينا أن نعترف بأن الإعلام المحلي والعاملين علية ليسوا بعميان ولا بخرسان ولا بطرشان، كل ما في الأمر أنهم يرون ويسمعون ولا يكفّون عن الحديث عن المعادين لولي أمرهم وسيدهم السياسي، في حين يتحولون إلى عميان، خرسان وطرشان لصالح ممولهم المادي وسيدهم السياسي.
وإن كان لا بد من كلمة حق فإن مسرحية المي ببلاش هي ليست فقط من روائع مسرح النقاب، بل أيضاً قمة الفن والإبداع للفنان منعم منصور، الذي حوّل المسرحية إلى عمل كوميدي ساخر من الدرجة الأولى فأضحك كل من حضر المسرحية من كبير وصغير لدرجة أنه يزعجني أن أكتب هذا التقرير بهذه الجدية، لأنني في الحقيقية ككل الذين حضروا المسرحية لم نكف عن الضحك والاندماج مع الممثلين في عملهم الفني الراقي والمتألق.
د. امير خنيفس