عبد الله المحمد إنسان بسيط، لدرجة السّذاجة، ورغم ذلك لم يَكُن في جيبة أحد، يلعب وحده، ويعود راضيًا مرضيًّا، لا في العِشّ ولا طارت، يمارس مقولة أبي العلاء المعرّي: تعب هي الحياة فما أعجب إلاّ من راغب في ازدياد، في عصر شراء الذّمَم، وفي عصر الرّقص على عدّة حبال في آن واحد، ناهيكَ عن التّقّنّع المُزَيّف تحت غطاء الدّين، والدّين براء من هذه الأشلاء، وهم يسيئون للدّين برجعيّتهم وتخلّفهم وغيبيّاتهم أكثر من أولئك الكفرة والمارقين الجاحدين، الإمام علي كرّم الله وجهه قال: ما قصم ظهري إلاّ رجلان: جاهل متمسّك وعالِم مُتهتّك! عبد الله حافظ على جذوة موروثة مُتّقِدَة من شِيَم السّلف الصّالح، أسرته المُقلّصة لم تكن ذات مرّة طرفًا في نزاع عائلي، لم تَنْحَز لأيّ فريق من الأهل والعشائر المتخاصمة، وحين تَقَعُ الواقعة والفاس بالرّاس من قِبَل محاريك الشّر، وهم كُثُر، كان أبوه وجدّه كلٌّ منهما يركب زِمالَتَه وَيُيَمّمَ شطر بلد قريب طالبًا همّة أهل الخير والّنوايا الحسنة لِفَكّ النّزاع والخصام، حسنة لوجه الله ولمنع سفك الدّماء الزّكيّة عبثًا دون طائل، احتَرَمَ عبد الله الآخرين جميعًا، كما احترم نفسه، حاول الكثيرون التَّحرّش به ونصب الكمائن له لاستمالته إلى صفوفهم، إلاّ أنّ محاولاتهم باءت بالفشل، تحطّمت على صخرة صمّاء، لم يقطع شعرة معاوية مع أحد، لا يناقض نفسه، ولا يسبح مع التّيّار وغلاء الأسعار من مزايدات سوق النّخاسة والحماسة الجوفاء.
مجموعة من الأبرار والأخيار دخلوا بيته بكثير من التّحفّظ والحذر، رحّب بهم أجمل ترحيب، إلاّ أنّه عرف أنّهم يضمرون شيئًا أمام هذه الزّيارة غير المتوقّعة، كيف لا ونظراتهم الخفيّة المتبادلة، لغة العيون والجسد توحي بالكثير من المجهول، ولكن لا يعلم أحد ما في القلوب سوى علاّم الغيوب، لم يستفزّ أحدًا ولم يستبق الأحداث، وحبال أفكاره تصول وتجول، تحاول سبر أغوار الأسرار، تبادلوا الغمزات الخفيّة بينهم، ولم تخف هذه عليه، حيث كانت عيناه كعينَي زرقاء اليمامة أيّام زمان، حاول كلّ منهم أن يوكل الحديث إلى الآخر، وهو مْطَنّشْ ما عند قْريش خبر، وأخيرًا بعد طول عناء وانتظار بَقَّ أبو صالح الحصوةَ، أوكله الجميع بذلك من خلال تبادل وجهات النّظر بالعيون والجفون. تنحنح أبو صالح لافتًا الأنظار إليه وقال: الدّنيا مسا مِنْمَسّيكو بالخير، بعد التّوَكّل وبعد سماح مْعَزِّب الرّحمن، خلّينا نْشُقّ العديلة من خُصْمها، بلا طول سيرة، وْبلا لفّ وْدوران!
-غَرِّد يا بو صالح ما أحلى تغريدك (هذا قبل عهود التْويتر، الانستغرام وصفحات التّواصل الاجتماعي) قول يا طير ما أخلى قولَكْ!
-أبو صالح: طول عمرنا ولاد بلد، زي طبق النّحاس، من وين ما ضربت عليه بِرّنْ، ما فيه مقسوم بينّنا غير اللي حرّمو الله، صحّ واللا لأ ياجماعة الخير!
-كلامك دُرر وجواهر، ما مْنِقْطعو غير عا قطع روسنا يا عمدتنا وعزوتنا!
-ما دام الحكي هيك، بدّنا نْوكّل أخونا بو محمّد بِمِلف وْلاد بلدنا اللي سقطوا ضحايا في حروب عدوانيّة، لا ناقة ولا جمل لهم فيها، ليكون معزّب الرحمن عريف مراسيم التأبين في هذا الموقف الجلل، لا سيّما وأنّهم ثلاثة رجال من خيرة شباب القرية. صال وجال بو محمد، قاس الأمور عن كثب في صمت وَجَب!
-مالكْ يا بومحمّد؟ إنتي جمل المحامل، قد الحمل وزيادة! ظلّ بو محمد واجمًا سارحًا مع بنات أفكاره، ما لي وللجيش والعسكر، أنا المُتّهَم باليسارية وحملان السّلم بالعرض! عاد واستدرك! لكن كيف لي أن أترك السّاحة والميدان لحميدان وِكْعيبان وْجربان، ليجعلوها منصّة للدّس والتحريض والتّلاعب بالمشاعر والعواطف، ناهيك عن الاصطياد بالمياه العكرة، وشَنّ حملة شعواء ونخوات هوجاء من الدّس والتّحريض على أبناء جِلدتنا وشعبنا، ولن ينقلب السّحر على السّاحر، ولن تدور على الباغي الدّوائر، إتّكِلْ على الله يا بو محمد، إخزي الشيطان! ظلّ يخاطب نفسه بصمت وتروّ، حتى انفرجت أساريره وقال: أنا لها رغم الدّسائس والكمائن، وسأقطع الطريق على كافّة المزايدين والمشعوذين، شاءوا أم أبَوا، وسأعلّمهم دروسًا في الآداب ومكارم الأخلاق.
رغم المصاب الجلل والثّكل والألم، شمخ بو محمد، دون أن يخشى في الحقّ لومة لائم، تجاورت العبارات المتزاحمة مع العَبَرات، حمّل المسؤوليّة لِأصحاب المطامع التّوسّعيّة، نَدَدَ بالعدوان والاجتياح، عزّى الثّكالى بوجدانيّات صادقة من قاموسه القروي، تبادل الحضور والجمهور النّظرات والتّطلّعات، إنّه إنسان صادق مع نفسه وخالقه، تقدّم منه رئيس بلديّة مُحْتَلَّة طالبًا حقّ التّأبين والرّثاء علنا للضحايا الثلاثة، تردّد أبو محمّد للحظات، إذا حدث خلل أو شغب أو استفزاز، فستوجّه أصابع الاتّهام نحوي، وسَأُرْجَمُ علانية، ويقول المصطادون في المياه العكرة: إجيتْ تَتْكَحِّلها عميتها! زَبّلِت ع الطّرحة، ألحّ رئيس البلديّة المحتلة بموقفه الإنساني، إمارات وعلامات الصّدق بادية على مُحيّاه الوسيم، تحمّل أبو محمّد هذا المِلف قائلًا: يا ربّ تُسْتُر، يا ربّ تعين!
تقدّم رئيس البلديّة المُحتلّة بخطى ثابتة نحو المنصّة والميكروفون، هَرَجٌ، مَرَجٌ وَحَرَجٌ، وهناك من خرج! إنطلق أحد الرّويبضات الإمّعات لاختطاف مُكبّر الصّوت عنوة، تلاشى أصحاب النّوايا الحسنة ما لا تُحمد عقباه، فسحوا المجال للضيف، قال هذا بصوته الجهوري:
أنا أُدينُ الاحتلال والانحلال، لن أدافع عن موبقاته وجرائمه التي لا تُعَدّ ولا تُحصى، لكنّني في موقف استثنائي، ووضع شاذّ عن المألوف والمعروف، أشهدُ والله خير الشّاهدين أجمعين: أن ضحاياكم الثلاثة الذين سقطوا في معركة ليست لهم، تجاوزوا المألوف، شذّوا عن القاعدة، وإذا بهم يعودون إلى أصولهم وموروثهم الزّاخر، تحمّلوا مسؤوليّات جِسام، حسروا اللثام عن الكثير من الأوهام والآراء المُسبقة، تركوا سلاح الاحتلال جانبًا، تبرّعوا بقوتهم العسكري ومياههم وزملائهم، لإنقاذ الملهوفين والمشرّدين، أدويتهم وعقاقيرهم الطّبّيّة كانت من نصيب جرحانا، حملوا الرّسائل البريديّة من أهلنا في المخيّمات إلى أهلهم في الوطن، ضاربين بعرض الحائط الأوامر العسكريّة والتّعليمات الميدانيّة، كانوا صليبًا وهلالًا أحمرَيْن في ساحة الوغى غير المتكافئة، دخلوا بيوتنا ليسوا كَمُحْتَلّين، بل كأصحاب نوايا حسنة، مالَحونا رغم الحظر والمنع والحذر، حملوا همومنا وأعانونا وقت الشّدائد، وإنّما الأعمال بالنّيّات، وَرُبَّ ضارّة نافعة. واسمحوا لي أن أقول: نحن أجدر بالبكاء والعزاء، والخسارة لكم ولنا سواء.
جمهور غفير صَمَتَ صَمْتَ أهل القبور أمام هذا الكلام غير المسبوق ولا الملحوق، إصطفّت العائلات الثّكلى لِتَقَبُّل التّعازي والمواساة، واذا برئيس البلديّة المحتلّة وصحبه، وهم شهام وليسوا بعملاء أو أنذال، يطلبون من ذوي الضّحايا، بعزيمة وإصرار: اسمحوا لنا أن نقف معكم لتقبّل التّعازي، ونحن شركاء في الهمّ والغمّ.
علّق أحدهم بصدق: الغنيمة صيدة، هؤلاء هم الرّجال الأبطال، إنّهم إخوتنا في السّرّاء والضّرّاء.
إجتاز بو محمّد عبد الله هذا الموقف، ولكنّ أصحاب النّوايا الحسنة حمّلوه فيما بعد ملفّات أخرى ثانيها هو: الرّد على كافّة المشعوذين الظّلاميين والحاقدين السّلفيّين الذين يسيئون ألى أبناء شعبهم أكثر من الأعداء والغُزاة الطّامعين، قال بو محمّد: ما لي ولهؤلاء الأنذال، لن أنزل الى حضيضهم ودركهم الأسفل، أنّهم كالنّار تأكل بعضها أن لم تجد ما تأكله. والقافلة تسير رغم.
الله أكبر: هذا هو مَن يُخيف الجبناء الرّعاديد وخفافيش ظلام الظُّلاّم في الحكومة الحمقاء! لا تخافوا يا عرب ويا مسلمين، بُكرة طويلي العُمر في تركيا، السعوديّة وقطر. بِحْكوا مع ساحبهم النتنياهو من شين يْمَرّق القانون على جناح السّرعة، حُطّوا إيديكو وْإجريكو بْمَيْ باردة! ولا تنسوا هِمّة عائب الوزير للتَبْوير التّقْزيمي: نفتالي ليبرمان قرا، صاحب الرّأي البلييد، وَمَشورات حمّادة ع عرب جَرَب! كان الحُقّ ناقص بُقّ، إجا الإقرع وْمَلاّه!
(إنّ اللهَ يأمرُكم أن تُؤدّوا الأماناتِ إلى أهلها، وإذا حَكَمْتُمْ بينَ النّاسِ أن تحكموا بالعدل، إنّ الله نِعِمّا يَعِظُكم به، أنّ اللهَ كان سميعًا بصيرًا) صدق
الله العلي العظيم/ النّساء 58.
حرفيش