مقاطعة قيادة الجماهير العربية لجنازة رئيس دولة إسرائيل التاسع المرحوم شمعون بيرس، أعادتني بالذاكرة الى أيام الرفض واللاءات التي اعتقدنا أنها ولت وانتهت، لكن القائمة المشتركة والمتابعة أعادتنا الى تلك الأيام التي رفض فيها العرب أي مبادرة نحو انهاء النزاع مع اسرائيل أو الصهيونية، والذي حصد لآف الأرواح وخلف عاهات وتشوهات لا تندمل إلا مع الموت، وخير من صور تلك الحالة الفنان العربي الساخر دريد لحام في مسرحيته “ضيعة تشرين”.
الموقف الذي اتخذ من قبل لجنة المتابعة والقائمة المشتركة بمقاطعة مراسيم الجنازة التي جرت الأسبوع الماضي، وكان من المتوقع ان يستمر كي تبرهن هذه القيادات أنها موحدة وصاحبة موقف محود، إلا أننا بدأنا نرى وفودا على مستوى الأفراد والمجموعات وهي تزور عائلة الفقيد لتقديم واجب العزاء. من هنا نستنتج ان هذا الموقف لم يكن برأي الأغلبية وانما خضع لضغوطات من مكونات داخل هذين الاطارين، كما أن الضلع الثالث، لجنة الرؤساء، والتي قدمت واجب العزاء بوفد مهيب برئاسة رئيس اللجنة مازن غنايم، بقي خارج هذا التوافق!!!.
هذا الزمان، هو زمان الشعوب، وللشعوب، خاصة في الأنظمة الديمقراطية، تأثير على القيادات والحكام، كي ينهجوا طريق السلام والحوار بعيدا عن العنف والمآسي والحروب، وعلى الحكام او القيادات ان تعمل لصالح الشعوب، وحين تخطئ القيادات، على الشعوب ان تثور كي تصحح مسار قياداتها لتحقيق الأهداف التي انتخبتهم من أجلها.
قد يظهر الأمر لأول وهلة بأنه مجرد عمل رمزي، مجرد مقاطعة لمشاركة في جنازة، الا انه في الواقع قرار هام ومصيري، يضع عرب بلادنا أمام مفترق خطير وقرار مفصلي، فإما الاتجاه نحو الاندماج في الدولة مع كامل الحقوق، وإما الاتجاه نحو الاستقلال الذاتي بكل ما تحويه هذه الكلمة من معان، وهذا هو سبب الضجة الحقيقي الذي أحدثها هذا القرار.
شمعون بيرس، لم يكن رجلا عسكريا، مثل رابين أو براك، رغم انه تقلد منصب وزير الدفاع، وهو منصب رمزي غالبا ما يقبل توصيات رئيس الأركان وقيادة الجيش، عمل خلال سنين حياته من أجل دولة إسرائيل وأمنها، وهذا واجبه، وحبذا لو عمل الزعماء العرب لشعوبهم، كما فعل بيرس، ومع ذلك لا يمكن لاحد أن ينكر تضحياته الجمة من أجل السلام، إذ آمن ان إسرائيل لا يمكنها الاعتماد فقط على قوتها العسكرية فحسب وان السلام هو الكفيل لأمنها ومستقبلها وانخراطها في منطقة الشرق الأوسط، ولعل اتفاقية اوسلو التي كان ممن رسم خيوطها وعمل على تطبيقها، خير دليل على ذلك. الراحل بيرس، ربط علاقات حميمة مع قيادة الجماهير العربية خاصة عندما كان رئيسا للدولة( إفطار رمضان بمشاركة كافة القيادات بما فيها التي قاطعت مراسيم جنازته)، وقبلها عندما كان وزيرا للأقليات ووزيرا لتطوير النقب والجليل، حيث عمل على تطوير القرى العربية عندما كان يصحب كافة الوزراء في حافلة نقل ليزور القرى العربية ويقف عن كثب على متطلباتها بهدف تحسين أوضاعها، أليس هذا مطلب الجماهير العربية في البلاد، ومطلب قياداتها أيضا كما تصرح به، نريد العيش بكرامة مع كامل الحقوق، ونرغب بتحسين وضعنا الاقتصادي والاندماج في حياة الدولة كما في مجال الطب على سبيل المثال، وأذكر مجال الطب بالذات لان المرحوم بيرس قال في أحد لقاءاته :” اننا نثق بالمواطنين العرب في البلاد وبإخلاصهم للدولة، وأكبر مثال أننا نسلم أنفسنا لهم في المستشفيات والمراكز الطبية”. الأمر يتطلب تفاهما وتقاربا من المجتمعين لبناء ثقة متبادلة، فكيف يمكن تحقيق الثقة في ظل تعميق التباين بين المجتمعين والذي برز بوضوح في قرار مقاطعة جنازة رمز السلام في المجتمع الاسرائيلي شمعون بيرس والتبريرات الهزيلة بعدها.
من هنا، استغرب قرار المقاطعة بعدم حضور مراسيم الجنازة، خاصة إذا نوقش هذا القرار وعلى أي أساس اتخذ هذا القرار الذي قد تكون له تداعيات هامة على مستقبل العلاقات العربية اليهودية الى مدى بعيد.
ما من شك، بان هذه الخطوة غير المبررة، لعبت لأيدي اليمين الإسرائيلي الذي سيؤكد في كل مناسبة، ان كافة العرب طابور خامس، وإذا لم يحضروا جنازة من حارب من اجل السلام او من عمل لدمج المواطنين العرب في حياة الدولة، فكيف يخلصوا لغيره، كما لعبت بشكل خاص ليد رئيس الحكومة نتنياهو الذي سيعرف كيف يستغلها في الوقت والمكان المناسبين. بمعنى آخر، جاء قرار المقاطعة منسجما مع ما يرغب به اليمين الاسرائيلي ومطابقا لأفكاره العنصرية.
القيادات العربية المحلية، التي تهمها القضية الفلسطينية ومصلحة اخوتنا الفلسطينيين، كان من المفروض التنسيق مع القيادة الفلسطينية وعلى راسها الرئيس الجريء محمود عباس أبو مازن، الذي احرج حكومة اليمين وأربك رئيسها نتنياهو بمشاركته، واخترق الرأي العام الإسرائيلي على اختلاف روافده بموقفه الشجاع، حيث برهن على بعد وعمق سياسيين يشهد لها لقاصي والداني، حتى القيادة الإسرائيلية التي تهاجمه صبحا ومساء لفهمه للعقلية الإسرائيلية، تنزل له القبعة على ذكائه السياسي بعيد النظر، فكانت مشاركته في مراسيم الجنازة محط تقدير رؤساء الدول ووضعته في مصاف الرؤساء المؤثرين دوليا، ووضعت القيادة الإسرائيلية في الزاوية، وهنا جاء قرار المقاطعة المحلي انفراديا لا بل مزاودا على القيادة الفلسطينية وعلى منظمة التحرير وهو امر مؤسف بحق.
ليس من الأهمية بمكان ان تكون محقا في موقفك، او يخيل لك ذلك، المهم أن تكون حكيما، فقرار المقاطعة حتى وإن كان محقا من وجهة نظر من اتخذه، الا أنه لم يكن حكيما، بل عشوائيا وبه تهبيط للأمل بعيش مشترك في هذه البلاد.
(ليس بالضرورة ان يكون راي الموقع متماثلا مع راي الكاتب)