حسبك بالباحث خَطَلًا أن يقرِّر النتيجةَ قبل البحث، بل يُعَنْوِن بها مشروعه! ومن ثَمَّ فإنَّما يأتي عملُه للمرافعة عن تلك النتيجة الناجزة، والتماس ما يبرِّرها، وإنْ باللتيَّا والتي، وبالهياط والمياط، ومهما تهافتت الأدلَّة وتضعضع الاستدلال. وهذا منهاجٌ معروف، لدَى من يجعل العربة أمام الحصان في مثل هذا الميدان! وقد أعرب مؤلِّف «جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير» عن هذه السبيل المتنكِّبة غير سبيل البحث الصحيحة، حيث قال: «بما أنَّ هذا العمل ينطلق من مقولة أنَّ العهد القديم هو تسجيلٌ لتاريخ بني إسرائيل في (عسير)، وليس في (فلسطين)، فمن الضروري محاولة استقراء جانبٍ من تاريخ (جزيرة العرب)… باحثين عمَّا يدعم تحديدنا الجغرافي هذا.»(1) وكذلك كان الثلاثة، (كمال الصليبي) و(أحمد داوود) و(زياد منى)، يفعلون؛ فنتائجهم مبيَّتة سَلَفًا، ومقولاتهم راسخةٌ قبل البحث؛ ولم يندفعوا إلى التأليف بحثًا عِلْميًّا متجرِّدًا من الأغراض، كما ينبغي للبحث العِلْمي أن يكون، بل باحثين عمَّا يدعم تحديدهم الجغرافي المُراد، رغم آناف العِلْم واللغة والتاريخ والجغرافيا.
ولقَلْبِ التاريخ كان لا بُدَّ لدَى هؤلاء من أن يشتغلوا على مسألة القَلْب والاستبدال اللغوي ما وسعهم الاشتغال؛ حتى بلغ الأمر بـ(منى)(2) إلى القول: «وأنا على قناعة [كذا!] بأنَّ كلمة (عبري) هي صيغة استبدال من كلمة (عربي)»! ولا ريب أنَّ في هذه القناعة كنزًا لا يفنى من قَلْب الحقائق واستبدال الباطل بالحق. وعندئذٍ سيغدو كلُّ شيءٍ جائزًا، وكلُّ لفظٍ دالًّا على غير معناه، بأُلعوبة القَلْب والاستبدال تلك. حينها سيأتينا كلُّ كاتبٍ على «قناعة» بما شاء لما شاء، ممَّا لا يملك عليه سَنَدًا ولا دليلًا، ومع ذلك سيدبِّج مُنتَجًا ركاميًّا عن «قناعاته الشخصيَّة»، لا وزن عِلْميًّا لما سَرَدَ فيه من خواطر رغبويَّة، لا لغةً تُحترم ولا تاريخًا ولا منهاجًا!
وقد جاء صاحبنا(3) ليُعيد القول حول (مِصْر)، ووجود أماكن مشتقَّةٍ من حروف هذه المادَّة الساحرة، إنْ في (الحجاز) أو في جنوب الجزيرة العربيَّة، مردِّدًا الاستدلال بذلك على أنَّها هي المقصودة في قصص (بني إسرائيل). ولن نُعيد معه القول في دحض هذا الافتراء المكرور، فقد ناقشنا ذلك في مقالات سابقة. على أنَّه أمرٌ داحضٌ أصلًا بخواء الدليل عليه. بل إنَّ الأماكن المشتقَّة أسماؤها من حروف هذه المادَّة منبثَّة في شتَّى أرجاء الجزيرة العربيَّة- حسب كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي- ولا معنى للاستدلال بمثل هذا الاسم البتَّة على ما يستدلُّون به عليه. لكأنَّما هؤلاء ينسون أو يتناسون أنَّ كلمة «مصر» كلمةٌ عربيَّة، يمكن أن تُطلَق على الأماكن المختلفة قديمًا وحديثًا. ذلك أنَّ المِصْر، في العربيَّة: الحاجِزُ والحَدُّ بين الشيئين؛ قال (أُمية بن أبي الصلت)، ويُنسب إلى (عَدِيِّ بن زيد العبادي):
وجاعلُ الشمسِ مِصْرًا لا خَفاءَ به بين النهارِ وبين الليلِ قد فَصَلا
قيل معناه: جعل الشمس حَدًّا وعَلامةً بين الليلِ والنهارِ. وقيل المِصْرُ: الحدُّ بين الأَرضين، والجمع مُصُور. ويقال: اشترى الدارَ بِمُصُورِها، أَي بحُدودها. وكان أَهلُ مِصْر يكتبون في شروطهم: اشترى فلان الدارَ بِمُصُورِها، وكذلك كان يَكْتُبُ أَهلُ هَجَر. والمِصْرُ: الحدُّ في كلِّ شيء، وقيل: المِصْر: الحَدُّ في الأَرض خاصَّة. والمِصْر: واحد الأَمْصار. والمِصْر: الكُورَة من الأرض، والجمع أَمصار. ومَصَّروا الموضع: جعلوه مِصْرًا. وتَمَصَّرَ المكانُ: صار مِصْرًا. وقيل: المِصْر في كلام العرب كلُّ كُورةٍ تُقام فيها الحُدود ويُقسَّم فيها الفيءُ والصدَقاتُ من غير رجوعٍ إلى الخليفة. ومَصَّرَ فلانٌ الأَمْصارَ كما يقال مَدَّنَ المُدُن. والمِصْرُ كذلك: الطِّينُ الأَحْمَرُ. وثوب مُمَصَّرٌ: مصبوغ بالطِّين الأَحمر أَو بحُمْرة. والمِصْرُ: الوعاء أيضًا.(4) إلى غير هذا من معاني هذه المادة اللغويَّة. فبأيِّ وجهٍ يسوغ أن يُستدلّ من تسمية مكانٍ ما في الجزيرة العربيَّة بـ(مصر)- أو بنحو هذا الاسم(5)- على أنه بُرهان بالضرورة على علاقته بـ(مِصْر وادي النيل)؟! غير أن هؤلاء لا تعنيهم اللغة العربيَّة، ولا تاريخها، ولا العرب، ولا تاريخهم، بل ما يعنيهم فقط التقاط اسمٍ فيه (م، ص، ر)، بأيِّ صورةٍ من صور التصريف، ليقولوا هي: مِصْر المذكورة في قصص (بني إسرائيل) لا غير، هكذا سذاجةً، و«لا بُدّ»، و«لا شكّ»!
كما أعاد مصنِّفُ «جغرافية التوراة: مِصْر وبنو إسرائيل في عسير» القولَ حول «طُوَى». وقد تقدَّم قولنا حول تعدُّد المواضع بهذا الاسم، من (عُمان) إلى (سيناء). ولهذا كان كلُّ مؤلِّف يخبط في ادِّعائه أن طُوى في مكانٍ من شِبه الجزيرة العربيَّة؛ لأنَّ لكلِّ مكانٍ طُواه؛ فـ(الصليبي) وجد الاسم في (عسير)، و(داوود) وجد الاسم في (غامد)، وثالثهم وجده في (مكَّة). وكلٌّ راكبٌ رأسه أنَّ طُواه هو الطُّوَى المقصود في (التوراة) و(القرآن)، لا غير! واختلافهم على هذا النحو يشي- في ذاته- بفساد استدلالاتهم جميعًا؛ لأنها استدلالات رأس مالها الحروف اللغويَّة لا أكثر. وكما ضلُّوا السبيل حينما لم يلتفتوا إلى أصالة اسم (مِصْر) في العربيَّة، ضلُّوا السبيل حينما لم يلتفتوا إلى أصالة اسم (طُوَى) في العربيَّة كذلك؛ فارتأوه عَلَمًا على مكانٍ معيَّنٍ، لا ثاني له، هو الوادي المقدَّس طُوَى. بل ذهب (مُنى)(6) إلى محاولة تأصيل الاسم في اللغة المصريَّة القديمة؛ ليدَّعي أنَّه يدلُّ على استيطانٍ مصريٍّ كان في (جزيرة العرب)، «ولا بُدّ»! ولولا هوسهم ذاك بالادِّعاء، لأدركوا أن كلّ وادٍ خليقٌ بأن يوصف في العربيَّة بأنه طُوَى، أو ذو طُوَى، بطبيعته. ذلك لأنَّ الطَّيَّ: نَقِيض النَّشْر، ومنه طَيَّة وطُوًى. وأَطواءُ الشيء: طَرائِقُه ومَكاسِرُ طَيِّه، واحدُها طِيٌّ، بالكسر، وطَيٌّ، بالفتح، وطِوًى. وطِوَى الحيَّة، مثلًا: انْطِواؤُها. وقيل: طُوًى مثل طِوًى، وهو الشيء المَثْنِيُّ. ومن هنا قالوا في قوله تعالى: )بالوادي المُقَدَّسِ طُوَى(؛ أَي طُوِيَت فيه البَرَكة والتَّقْدِيسُ مرتين. وذو طُوًى، مقصورًا: وادٍ بمكَّة، وجاء في بعض الكتب ممدودًا. وذو طُواءٍ، ممدودًا: موضع بطريق الطائفِ أيضًا، وقيل: وادٍ. وعرّف (ابن الأَثير) «ذا طُوَى» بأنه موضع عند باب مكَّة يُسْتحبُّ لمن دخل مكَّة أَن يَغْتَسِلَ به. (7) ومن تحليل هذه المادة اللغويَّة يظهر أن أصل هذا الاسم وصفٌ، وهو وصفٌ لطبيعة المكان، وإنْ تأوَّل معناه مَن تأوَّل على معنى القداسة والبركة في (وادي طُوَى) القُرآني. لأجل ذلك تعدَّدت المواضع بهذا الاسم وجذر المعنى يبدو واحدًا.
[وللحديث بقيَّة]