الساحة العامّة مكتظّة بمن فيها، مزدحمة بالأهالي الذين يردون النبع العذب مستسقين، رجال يسوقون قطعانهم لريّها من في الأحواض التي تعرف بالـ”رانات”: يملأون الصفائح ماء ويسكبون الماء في “الران” حتى يمتلئ ثم ترده الماشية، صبيان وبنات صغار السنّ يجرّون جدياً أو طلياً صغيراً حديث السنّ في طريق العودة من أحد البساتين حيث كانوا يعلفونه بما تبقى من أوراق أشجار آخذة بالتناثر والتعرّي، يعرجون على النبع يستسقون هم أيضاً، نسوة يستسقين، صبايا منتصبات القامة كأشجار الحور الباسقة والميس الشاهقة والأرز يملأن الجرار ويحملنها على رؤوسهن يتمايلن بها “غوى” وتباهياً ومفاخرة…
وفجأة يظهر فتى من أحد الأزقة باحثاً عن زميل له داعياً إياه:
هيّا بنا إلى الزقاق!
أي زقاق؟ يرد الزميل سائلاً
الزقاق الشمالي؟
ولماذا؟
لنجمع الربد ونحمله إلى البيادر؟
وأي ربد تعني؟
أعني، أيّها الجاهل الغبي، روث الأبقار الجاف الذي تكدّس خلال شهور الصيف في الزقاق فأصبح ما يشبه الألواح السميكة!
وما حاجتك إليه؟
لنتّخذ وقوداً نشعل به الأبابيل أيها الغبي؟
الأبابيل؟ أيّة أبابيل؟
آه من غبائك…
لن أرافقك ما لم تقل لي أيّة أبابيل تعني…
حسناً، حسناً أيها الجاهل، فالقاموس العظيم لسان العرب يقول:
“والأَبِيل والأَبِيلةُ والإِبالة: الحُزْمةُ من الحَشيش والحطب. التهذيب: والإِيبالة الحزمة من الحطب!
والأَبِيلُ: رئيس النصارى، وقيل: هو الراهب، وقيل الراهب الرئيس، وقيل صاحب الناقوس، وهم الأَبيلون؛ قال ابن عبد الجن:
وما قَدَّسَ الرُّهْبانُ، في كلِّ هَيْكَل
أَبِيلَ الأَبِيلِينَ، المَسِيحَ بْنَ مَرْيَما
ويروى:
أَبِيلَ الأَبيليين عيسى بْنَ مريما
وكانوا يسمون عيسى، عليه السلام، أَبِيلَ الأَبيليين، وقيل: هو الشيخ، والجمع آبال.
والأَيْبُليُّ: الراهب، فإِما أَن يكون أَعجميّاً، وإِما أَن يكون قد غيرته ياء الإضافة، وإما أَن يكون من بابِ انْقَحْلٍ، وأَنشد الأَعشى:
وما أَيْبُليٌ على هَـيْكَـلٍ
بَناهُ، وصَلَّب فيه وَصارا
ومنه الحديث: كان عيسى بن مريم، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، يسمى أَبِيلَ الأَبِيلِين؛ الأَبيل بوزن الأَمير: الراهب، سمي به لتأَبله عن النساء وترك غشْيانهن، والفعل منه أَبَلَ يأْبُلُ أَبَالة إذا تَنَسَّك وتَرَهَّب. أَبو الهيثم: الأَيْبُليُّ والأَيْبُلُ صاحبُ الناقوس الذي يُنَقّسُ النصارى بناقوسه يدعوهم به إلى الصلاة؛ وأَنشد:
وما صَكَّ ناقوسَ الصلاةِ أَبِيلُها
وقيل: هو راهب النصارى؛ قال عدي بن زيد:
إِنَّني والله، فاسْمَعْ حَلِفِي
بِأَبِيلٍ كُلَّما صَلى جـأَرَ
وكانوا يعظمون الأَبيل فيحلفون به كما يحلفون بالله!”…
(وبالمناسبة: بحثنا في كل مصدر في متناول يدنا عن معنى لـ”قبيلة” يقارب معنى النار المشتعلة أو الحطب أو معنى قريباً آخر فلم نجد!)
وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى كان الفَتَيَان قد نبشا من الربد كمّاً كبيراً فراحا ينقلانه إلى أرض البيادر، ويكوّمانه أكواماً أكواماً، ويضيفان إليه القصل وهو ما تبقى من عقد قشّ الحنطة ولم ينعم خلال الدرس، ويعدّانه لساعات المساء، في انتظار غروب الشمس…
ومرّت الدقائق بطيئة متثاقلة كليل امرئ القيس، والفَتَيَان في انتظار مملّ ومقيت، وككلّ شيء يبتدئ فهكذا النهار أيضاً راح ينتهي ويقارب زواله، والشمس الكسلى استحثّت الخطى، فبعد أن كانت على بعد أذرع كثيرة من الأفق كأنها سقطت فجأة وهوت من علٍ لتستريح من عناء يومها في لجة البحر القابع تحت الأفق الأحمر الدامي.
وراح عرش الليل الأسود يبسط سلطانه رويداً رويداً مستوطناً الوهاد والوديان أولاً ثم السفوح والقمم ثانياً..ً.
ونظر أحد الفتيين إلى السماء وصاح مستغرباً، فالليل رغم أنه ما زال في أوله فهو ليل قاتم مدلهّم، وها هي السماء شديدة السواد رغم أنها خالية من الغيوم، وتحسّر على ليالي شباط عندما لا يفارق الألق أشدّ الليالي حلكة وسواداً، وأدرك في تلك اللحظة كيف يوقد الناس نيران الأبابيل في مثل هذه المناسبة، لقهر الظلام وحثّ النور على دحره وكسره شرّ كسرة.
وكأن يداً خفية أعطت إشارة البدء، فما كادت تزيّن عدّة نجوم ظلام الليل، حتى بزغ نور عشرات الأبابيل التي اشتعلت نيرانها عالية لتشقّ بلهيبها ودخانها وشررها عنان السماء.
وما أن اشتعلت نيران الأبابيل حتى علا الصراخ والضجيج، والهرج والمرج… وراح الجميع يتحلّقون حول هذه الأبابيل، ويقوم الشباب والأولاد منهم بالقفز من فوقها، غير عابئين بألسنة اللهيب التي تلفح وجوههم وتحرق أطراف غررهم مرددين مرنّمين مرتلين مصلين ضارعين:
الليلة عيد الصليب و”شاين” فيّ يطيب!…
أي: يصادف الليلة عيد الصليب وأرجو وأتضرع إلى الله تعالى أن يمّن الله عليّ (وعلى الجميع) بالشفاء من كلّ الأمراض!َ
وهذه هي ليلة عيد رفع الصليب الكريم الذي تحتفل به الكنائس الغربية في الرابع عشر من شهر أيلول، وتحتفل به الكنائس الشرقية في السابع والعشرين من الشهر نفسه، بعد الاعتدال الخريفي، حين يتساوى الليل والنهار بأقل من أسبوع.
ويؤمن الكثيرون أن الذي يقفز في هذه الليلة المقدسة من فوق الأبابيل التي يجري إشعالها لذكرى النيران التي تمّ إشعالها قبل حوالي ألف وسبعمائة عام على قمم الجبال بناء على رغبة القديسة الملكة هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطين العظيم لتبشّره بالعثور على خشب الصليب الكريم في القدس، حيث كان إيقاد النيران على قمم الجبال بناء على علامات معينة واتفاقات مسبقة أسرع وسيلة للتواصل ونقل الأخبار في ذلك الزمان.
ويؤمن القافزون من فوق نيران الأبابيل أن قفزهم من فوق هذه النيران يشفيهم من كلّ ما يعانون منه من أمراض…
ويبكّر الناس في صباح الغد إلى البساتين (والأسواق) لقطف الرمان (أو شرائه) لتزيينه وأصحابه إلى الكنيسة للصلاة عليه وتقديسه للتبرك به!
وليستجب الربّ لدعاء جميع الضارعين له والراجين شفاءه!
ملاحظة: يطيب لموقع الوديان المنطلق من البقيعة ان ينشر هذا المقال للأستاذ منعم حداد منقولا عن موقع “اهلا” (!) في معليا لما فيه ما يهم اهالي بلده البقيعة.