قَدْ لا تَخْلو لُغَةٌ عالَمِيَّةٌ حَيَّةٌ مِنْ كَونِها تَنْشَطِرُ الى لُغَتَينِ : فُصْحى وعامِّيَّةٍ ، مَعَ تَفاوُتٍ بِينَ لُغَةٍ وأُخْرى في قُرْبِ أَو بُعْدِ فَصيحِها عن عامِّيِّها مِنَ الكَلامِ .. أَمّا الفُصْحى فَهي لُغَةُ القِراءِةِ والكِتابَةِ ، وتَكونُ مُنْقادَةً تَمامًا لِأَحْكامِ الصَّرْفِ والنَّحْوِ .. وأَمّا العامِّيَّةُ فَهْي اللُّغَةُ الَّتي يَتَخاطَبُ بِها النّاسُ كَيفَما اتَّفَقَ ، بِلا ضَوابِطَ وبِلا أَحْكامٍ تُلْزِمُ المُتَحَدِّثَ مُراعاتَها أَو التَّقَيُّدَ بها ..
لَيسَ مَطْروحًا لِلنِّقاشِ القَولُ بِأَنَّ اللُّغَةَ المَحْكِيَّةَ هي الابْنَةُ الشَّرعِيَّةُ لِلْفُصْحى .. خَرَجَتْ مِنْ رَحِمِها ، فَتَلَقَّفَتْها القابِلَةُ /الحَياةُ فَأَلْبَأَتْها لُغَتَها هي ، لا لُغَةَ أُمِّها .. وهَلْ لُغَةُ أُمِّها سوى لُغَةٍ سُطِّرَتْ بِها صَفَحاتُ أُمَّهاتِ كُتُبِنا الأَدَبِيَّةِ مِن شِعْرٍ وَنَثْرٍ ، وتُوِّجَتْ بِالقُرْآنِ الكَريمِ إذْ جاءَنا بَيانًا وإْعْجازًا ؟!
ومِمّا ساهَمَ في ابتِعادِ اللُّغَةِ المَحْكِيَّةِ عنِ الفُصْحى تَعَدُّدُ اللَّهَجاتِ في اللُّغَةِ الواحِدَةِ ، فَتَمازُجُ العَرَبِيَّةِ بالأَمَزيغيَّةِ في دُوَلِ شَمالِ أَفريقيا مَثَلًا ، أَنْتَجَ عَرَبِيَّةً لا يَفْهَمُها – تَقْريبًا – سِوى سُكّانِ تِلْكَ الدُّوَلِ في تَخاطُبِهِمْ مَعَ بَعْضِهِمْ ؛ فَإِذا تَعامَلوا مَعَ اللُّغَةِ كِتابَةً عادوا الى الفُصْحى لِيَتَواصَلوا مَعَ سُكّانِ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ الأُخْرى ؛ وقَدْ نَلْمَسُ الشَّيءَ ذاتَهُ عِنْدَ سُكّانِ دُوَلِ الخَليجِ والجَزيرَةِ العَرَبِيَّةِ وإرِّتْرِيا والسّودانِ .. لِتَظَلَّ المَحْكِيَّةُ عِنْدَ سُكّانِ ما عُرِفَ تاريخِيًّا بِسورْيا الكُبْرى هي الأَقْرَبُ الى اللُّغَةِ الفَصيحَةِ ، بِدَليلِ أَنَّنا لو بَحَثْنا لَوَجَدْنا أَعْدادًا لا تُحْصى مِنَ الكَلِماتِ العامِّيَّةِ ما زالَتْ مُحافِظَةً على مُعْجَمِيَّتِها بِناءً ومَعْنىً .. الأَمْرُ الّذي شَجَّعَ الكَثيرَ مِنَ الأُدَباءِ أَنْ يُطَعِّموا قِصَصَهُمْ ورِواياتِهِمْ بِالعامِّيَّةِ ، خاصَّةً في الحِوارِ لِتَكونَ اللُّغَةُ أَكْثَرَ مُلاءَمَةً واتِّفاقًا مَعَ شَخْصِيّاتِ الرِّوايَةِ المُتَحاوِرينَ .
والسُّؤالُ الَّذي يَطْرَحُ نَفْسَهُ الآنَ : هلْ سَيَأْتي يَومٌ تُصْبِحُ اللُّغَةُ المَحْكِيَّةُ فيهِ لُغَتَنا نُطْقًا وكِتابَةً كَما يَعْتَقِدُ البَعْضُ؟! بِالتَّأْكيدِ لا ! والأَرجَحُ أَنْ تَرْتَقي مَحْكِيَّتُنا الى لُغَةٍ وُسْطى أَي فَصيحَةٍ عامِّيَّةٍ ، أَوعامِّيَّةٍ فَصيحَةٍ .. ولَيسَ مَنالُ هّذا بِبَعيدٍ .