ارتسم المشهد التركي يوم الاحد الماضي بلوحة رسمها ملايين الاتراك في تظاهرة وحدوية حملت اسم “الشهداء والديمقراطية “، شارك فيها الى جانب الرئيس التركي اردوغان، رؤساء الاحزاب التركية: “العدالة والتنمية” الحاكم، وحزبي المعارضة “الشعب الجمهوري” و “الحركة القومية”. جسدت هذه المظاهرة المليونية وحدة الشعب التركي وتطلعه الى صيانة تجربته الديمقراطية وتعزيزها، وتقديره العميق لدماء شهدائه الذين سقطوا في معركة افشال الانقلاب العسكري منتصف تموز الماضي. جسد هتاف ملايين الاتراك “تركيا أمة واحدة.. وطن واحد.. علم واحد.. حكومة واحدة.. دولة واحدة”، المرتكز الاساسي لتركيا المستقبل كدولة مدنية ديمقراطية تخففت من غلوها العلماني، وتقدم تيارها الاسلامي من القوالب الاربكانية التقليدية الى قوالب اردوغانية مرنة، تستوعب المفاهيم الديمقراطية وتمارسها وتدرك أولوية المبادئ الوطنية وتكرسها، وتبدي اهتماما بقضايا الامة الاسلامية وتسعى لدعمها.
في الجانب الفلسطيني ومنذ عشر سنوات ما زال مشهد الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني يكرس لحالة الفشل في اعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وتفريغ المشروع الوطني الفلسطيني من معناه الحقيقي، كمشروع يسعى لتحرير الشعب الفلسطيني من الاحتلال الاسرائيلي باتجاه اقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف وعودة اللاجئين وحق تقرير المصير.
في تعامله مع محاولة الانقلاب الفاشل وتبعاته المحلية والدولية يرتكز الشعب التركي وحكومته على وحدته الوطنية ودماء شهدائه وتجربته الديمقراطية، ومنجزاته التنموية. أما شعبنا الفلسطيني، سلطة وفصائل ومنظمة تحرير قبل ذلك، فلا تأبه لواقع الاحتلال وتكريسه، والعدوان المتكرر على وجوده الانساني والعمراني في الحاضر والمستقبل وخصوصا في مدينة القدس. دماء شهدائنا لا تحرك ضميرنا الوطني، وأنّاة أسرانا البواسل وخصوصا المضربين منهم عن الطعام لا تقع على آذان مصغية، والاقتحامات المتكررة للمسجد الاقصى لا تثير غيرتنا على المقدسات، والنكبة بعد النكبة على اللاجئين الفلسطينيين خصوصا في سوريا لا تحرك فينا الضمير الانساني اتجاه اخواننا وارحامنا.
كان يكفي شعبنا الفلسطيني وقيادته، واحدة مما ذكر آنفا ليعلن بشكل فوري انهاء الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني، واعلان المصالحة الحقيقية، ورص الصف تحت راية واحدة لمواجهة الاحتلال وممارساته العدوانية وسياساته العنصرية، ولكنها ثقافة الفشل والتشرذم وحب الذات الفصائلية التي تمنع ابناء الشعب الواحد ان يتخندقوا سويا ضد الاحتلال والعدوان على الارض والوطن والانسان الفلسطيني.
قبل اسبوعين شاركت معظم الفصائل الفلسطينية في مؤتمر حواري في ضيافة جنوب افريقيا، بدا واضحا أن الانقسام الفتحاوي الحمساوي أعمق مما يبدو لنا، وأن انهاء الانقسام أصعب مما نتوقع، ويتجاوز ما يجري الحديث عنه في الاعلام من مشكلة الموظفين في غزة وآلية اختيار اعضاء حكومة الوحدة الوطنية. في اعتقادي ينقص الفصائل الفلسطينية وقياداتها الكثير من الصدق والشفافية مع شعبها، والكثير من المصارحة بين بعضها، وينقصنا كذلك التعامل بواقعية وقبول لحقيقة كوننا شعبا تعددت تياراته الفكرية وكثرت فصائله واحزابه، ولم يعد ينقاد لقائد واحد او فصيل واحد.
ان وجود سلطة فلسطينية منتخبة – وإن كانت ما زالت تحت احتلال – أدخلنا في صراع مبكر حول السلطة والنفوذ ومحاولة الاستئثار ب “مغانم الوطن المحتل”، وذلك لعدم رسوخ الفكر الديمقراطي وثقافة المؤسسات، والقبول بفكرة التعددية وقبول الاخر الشريك والند، وتغليب البعد الوطني الجامع على الفصائلي ، واحيانا كثيرة الارتهان الى رغبات وتوجهات القوى الاقليمية والدولية مما أفقد الشعب الفلسطيني فرصته لتأسيس نواة صلبة للدولة الفلسطينية التي يستحقها، خصوصا بعد مرحلة الشهيد ياسر عرفات، حيث شاركت حركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي، وكان من المنتظر ان تتفاعل منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني مع هذا التوجه الجديد والمهم لحركة حماس، ليتم استيعاب كافة الفصائل الفلسطينية داخل منظمة التحرير لتكون شريكا حقيقيا في القرار الوطني الفلسطيني.
ان نجاح التجربة التركية بعد عدة انقلابات عسكرية أطاحت بالحكومات المنتخبة ديمقراطيا بسبب ميولها الاسلامية، وتكريس العسكر من خلال الانقلابات للنهج العلماني المتطرف، لم يمنع الإسلاميين في تركيا من مراجعة تجربتهم وخطابهم السياسي واحداث التغيير المطلوب من اجل بناء دولة مدنية ديمقراطية، تعالج مرض التطرّف العلماني وهيمنة المؤسسة العسكرية. من جهة ثانية من يظن ان الأحزاب العلمانية في تركيا ما زالت تراوح مكانها عند مواقفها القديمة ومراهنتها على العسكر فقد قصر عن معرفة وإدراك التحولات الشاملة والعميقة في المجتمع التركي ككل، وأشير فقط الى امر واحد لم ينتبه اليه معظمنا، وهو ان مرشح الأحزاب العلمانية في تركيا قبل عامين لمنافسة اردوغان كان الامين العام السابق لمنظمة التعاون الاسلامية البروفسور أكمل الدين احسان اوغلو وهو شخصية إسلامية بامتياز.
بناء على ما سلف، هل يجوز لنا ان نطمع في مواقف متقدمة للفصائل الفلسطينية، خصوصا حركة فتح وحماس باتجاه تجاوز عقدة الانقسام الفلسطيني، وإعادة ترتيب البيت الوطني الفلسطيني، اولا من خلال منظمة التحرير الفلسطينية ثم من خلال مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية وجمع الضفة والقطاع تحت ادارة وطنية واحدة؟
مطلوب من حركة فتح وحماس تبديد مخاوف بعضهما البعض، والقبول ببعضهما كشريكين متساويين في القرار الفلسطيني مع باقي الفصائل الاخرى.
كما لا نعفي أنفسنا في داخل الداخل الفلسطيني من دور فعال ومؤثر وضاغط مع باقي الفصائل والأطر المجتمعية والاكاديمية والنقابية لتجاوز ثنائية فتح وحماس، ودفعهما باتجاه المصالحة وانهاء الانقسام وإعادة تشكيل الأُطر الوطنية الوحدوية.
ولتكن البداية من خلال تشكيل قائمة وطنية مشتركة يخوض الجميع من خلالها انتخابات البلديات والسلطات المحلية، ونؤسس من خلالها لمرحلة جديدة نبني من خلالها الثقة المتبادلة، وتكون مقدمة لشراكة أوسع وأعمق في منظمة التحرير الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني.
د. منصور عباس – نائب رئيس الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني