لو أنصف التاريخ سوريا فقد يكتب يوما، أن فيها وبدم أبنائها تحطّمت بدعة «الربيع العربي». صمدت الدولة السورية وعلى نحو اسطوري ضد أشرس وأعنف وأسوأ حروب القرن. يكفي أن يذهب المرء هذه الأيام الى دمشق ويسهر في أحد مطاعمها أو فنادقها ويجول في شوارعها وزواريبها ليتأكد أنها، مرة ثانية، تقوم من تحت الرماد، كما كان شأنها دائما عبر التاريخ. يكفي ان يزور احدى مؤسسات الدولة في العاصمة ليرى أن كل شيء يسير كما لو أن الدولة لم تتعرض لأي شيء. وحده العامل الاقتصادي يثقل كاهل المواطن لكنه هو الآخر صمد أكثر من المتوقع.
قد يختلف كثيرون حول دور الرئيس بشار الأسد في الحرب، لكن ثمة يقينا بات يكبر حتى عند خصومه بأنه لم يكن «منفصلا عن الواقع» كما اعتقدوا وانما هو الذي يدير كل شيء. لم يرحل لا في الشهر الأول كما توقع البعض، ولا بعد ٥ سنوات. ها هو على العكس تماما يفرض على الداخل والخارج أولوية واحدة هي: محاربة الارهاب. لا شي يناقض بقاءه على رأس القيادة، سوى تفكك المعارضة وهزالها بحيث تُجاهد دول كثيرة للملمة أشلائها بغية تشكيل وفد تفاوضي موحد الى جنيف، هذا اذا عُقد. ولا شيء يناقضه أيضا سوى تلاشي دور الدول الإقليمية التي عملت على اسقاطه…
لا شك أننا أمام واقع جديد يرتسم حاليا في حلب وريفها، فهل يتم ذلك بضوء أخضر أميركي، أم أننا سنشهد شراسة عسكرية هائلة من الطرف الآخر لوقف اندفاعة الجيش السوري وحلفائه خصوصا «حزب الله» الذي يستعد للتقدم سريعا في أحد الارياف الحلبية؟.
الأمران متوقعان، لكن يبدو أن ما يقال علانية عن استمرار الرغبة في رحيل الأسد قد انتهى. صارت الغرف المغلقة تشهد كلاما متعدد المصدر وحتى أميركيا عن أهمية بقائه لمحاربة الإرهاب.
فماذا في المعلومات أولاً؟
يقول مسؤول دولي كبير لـ «السفير»: ان التطورات الأخيرة في حلب من تقدم الجيش السوري وحلفائه، جاءت في سياق المساعي الاميركية الروسية للتفاهم. لكن الاتفاق التام لم يحصل بعد وهو خاضع للاهتزاز. أي ان الانتصار في الكاستيلو والليرمون وغيرهما قد يواجه بهجمات شرسة لاحقا بدعم أميركي. تريد واشنطن من موسكو ان تقنع الأسد بأن يقبل بمناطق عسكرية للمعارضة المعتدلة ممنوعة على الطيران السوري، مقابل قرارٍ أميركي بوضع «النصرة» و «داعش» في سلة واحدة ومحاربتهما. حتى الآن هذا مرفوض سوريا وروسيا. دمشق تعتبر المناطق الممنوعة على الطيران مساسا بالسيادة. روسيا تدعمها.
هناك خلاف أميركي روسي أيضا على الممرات الانسانية. موسكو تريدها لاخراج المدنيين واكمال سياسة «الأرض المحروقة» ضد الفصائل المسلحة الموسومة بالإرهاب، بينما تقبل بها واشنطن فقط اذا كانت لتقديم المساعدات الانسانية. لكن موسكو نجحت سابقا في فرض تفتيش القوافل الانسانية بحضورها. هنا تنازلت ايضا واشنطن والأمم المتحدة.
لم يأت فك ارتباط «جبهة النصرة» بـ «القاعدة» وتغيير اسمها مصادفة.. فهو تزامن أولا مع قرار العفو الرئاسي السوري عن المسلحين اذا سلموا أسلحتهم في خلال ٣ أشهر (أي استسلموا)، وتم تفسيره ثانيا بالقول انه «تلبية لرغبة أهل الشام في دفع ذرائع المجتمع الدولي» وفق ما أوضح قائد «النصرة» أبو محمد الجولاني. فمنذ متى كان الجولاني وصحبه يهتمون بـ «ذرائع المجتمع الدولي»؟. يبدو ان فك الارتباط جاء بضغط أميركي على دول الخليج الداعمة للمسلحين، لكنه كان اقل من المطلوب روسيا، لذلك سارعت واشنطن الى اعتبار «النصرة» تنظيما إرهابيا وان تغيير الاسم لا يغير شيئا. موسكو تضع قضية القضاء على «النصرة» او تفككها شرطا أساسيا لأي اتفاق مع واشنطن، على اعتبار انها الأخطر حتى من «داعش» على الأرض.
قال الروس صراحة لنظرائهم الأميركيين، انهم تعرضوا لخديعتهم بعد وقف اطلاق النار حيث استمر تدفق السلاح والمسلحين، لذلك لا وقف مقبلا لاطلاق نار او هدنة قبل القبول الأميركي بسحق «النصرة» و «داعش» ومن يتفرع عنهما. هذا ما سيظهر في تطورات الحرب في حلب وأريافها في المرحلة القريبة المقبلة.
لا شيء محسوماً حتى الآن لجهة العودة الى مفاوضات جنيف. الثقة السورية بالمبعوث الدولي ستيفان ديمستورا اهتزت أكثر من مرة، الأمر الذي دفع القيادة السورية الى تأخير اللقاءات معه أو مع مبعوثيه أكثر من مرة. تتهمه دمشق بأنه يقول للمسؤولين السوريين حين يلتقيهم ان لا بديل عن الرئيس الأسد وان بقاءه في السلطة ضروري، ثم حين يغادر، يوحي بالعكس، وفق ما يروي مسؤول سوري رفيع المستوى. وهو اذ يتفق مع دمشق على أمر يمكن أن يناقضه حين يذهب لعند الآخرين.
القيادة السورية تحمّله أيضا مسؤولية العجز عن تشكيل وفد معارض موحّد يضم أطياف المعارضة كافة لانجاح المفاوضات وتعتبر أنه يخضع دائما للضغوط فلا يأتي الا بالائتلاف المعارض أي «بمعارضة السعودية»، متجاهلا المعارضة المدعومة مثلا من القاهرة او موسكو او معارضة الداخل. لكن مصادر ديمستورا تبرر ذلك لـ «السفير» بالقول: «ليس دور المبعوث الدولي تشكيل وفد المعارضة» وانما تسهيل اللقاءات بين الجانبين.
مقابل هذا الحذر الدمشقي من ديمستورا، كان مفاجئا ان يعلن نائب وزير الدفاع الروسي اناتولي انتونوف ان الأسد متمسك بالحل السياسي وبأنه وجه رسالة الى السفير رمزي عز الدين رمزي نائب ديمستورا للقائه في دمشق. أولا لماذا يعلن عسكري روسي هذا الكلام وليس دمشق؟ وثانيا، لم يكن الأمر صحيحا، فلا الأسد قرر استقبال رمزي، ولا دعوة وجهت له، وانما كالمعتاد هو الذي طلب، وبعد نحو شهر ونصف الشهر تمت الاستجابة السورية لطلبه شرط ان يلتقي مسؤولين في الخارجية. يمكن تفسير الخطوة الروسية باتجاهين، فاما ان القيادة العسكرية الروسية المستعجلة كما الجيش السوري على حسم بعض الجبهات الكبرى، تريد ان تصبح في الواجهة بدلا من ديبلوماسية سيرغي لافروف، او أن موسكو تشجع الأسد على المضي قدما في الحل السياسي مع الاستمرار بالمعركة العسكرية للحصول على أكبر قدر ممكن من التنازلات الاميركية في ما بقي من عهد أوباما.
الأهم من ذلك هو ان دمشق صارت هي التي تختار من تستقبل وماذا، ولا بأس ان ينتظر ديمستورا طويلا جوابها.
التقدم الكبير الذي حققه الجيش السوري وحلفاؤه في جبهة حلب مرشح للاستمرار وبوتيرة أسرع. لكن المتوقع أيضا ان تلجأ الأطراف الأخرى الى اشعال بعض الجبهات (يحكى عن ادلب) والإقدام على عمليات انتحارية واغتيالات وقصف مركز.
ماذا تريد أميركا؟
خلافا لكل العنتريات التي نسمعها هنا وهناك بشأن رحيل الأسد. فإن وزير الخارجية الاميركي جون كيري أبلغ الروس أكثر من مرة في الآونة الأخيرة ان بقاء الأسد في السلطة ضروري للحفاظ على الجيش السوري والمؤسسات بغية الاستمرار في محاربة الإرهاب وفق ما روى الروس للسوريين. تريد أميركا فقط من موسكو وعدا صريحا بأنه مع تقدم المفاوضات السياسية، تسعى القيادة الروسية لاقناع الأسد بعدم الترشح لفترة رئاسية جديدة وبقبول المشاركة الحقيقية في السلطة.
بالمقابل فان القيادة السورية لا تريد ان تسمع حتى بكلمة «مشاركة» لأنها تعني تقاسم السلطة. هي حددت سقف الحل السياسي، بالقبول فقط بحكومة موسعة تضم اليها بعض المعارضين المقبولين. أكثر من هذا مرفوض قطعا.
أما بالنسبة للتهويل بتقسيم سوريا، فان الأمر ما عاد مطروحا، أولا لأن ثمة قناعة أميركية روسية بأن ضرره أكبر من فوائده، وثانيا لأن التقارب الروسي التركي (والكلام عن معلومات استخبارية قدمتها موسكو لاردوغان للكشف عن الانقلاب قبل حصوله)، يحمل وعدا روسيا قاطعا بعدم السماح بإقامة كيان كردي مستقل في الشمال السوري. ثم ان التركيبة العربية الكردية المعقدة في المنطقة لا تسمح بالتقسيم لأنها تستعيد مجازر التاريخ بين الجانبين.
حين يذهب اردوغان لعند حليفه الجديد فلاديمير بوتين في مطلع الشهر المقبل، سيكون قد قدم للروس كل التسهيلات الممكنة في سوريا. وحين يلتقي بوتين بنظيره الأميركي مرتين في الشهرين المقبلين في آسيا والأمم المتحدة، ينبغي ان يكون الجزء الأكبر من حلب قد حُسم، وان يكون قد حصل تقدم بشأن المفاوضات السورية في جنيف، لذلك تتسارع وتيرة اللقاءات والاتصالات بين أميركا وروسيا حاليا بالرغم من التعقيدات.
لكن السؤال المركزي الآن، هل يريد بوتين فعلا التفاهم الكامل مع أوباما ام يترك الأمر للرئيس المقبل خصوصا اذا فاز دونالد ترامب الذي يتبادل الغزل منذ فترة مع سيد الكرملين؟ يبدو ان شرط التفاهم مع أوباما هو السيطرة على كامل حلب وأريافها. والا فان أوباما سيودع البيت الأبيض والحرائق مشتعلة بشدة في الجبهة السورية. تعرف موسكو حساسية وضع أوباما وتضغط كثيرا للحصول على أكبر قدر من التنازلات.
لعل التطورات المقبلة في عاصمة الشمال السوري هي التي دفعت أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله الى رفع اللهجة في خطابه الأخير والحديث عن حتمية هزيمة المشروع المضاد… حتى ولو أنه ترك باب الحوار مفتوحا.
لا شك ان مواجهة المشروعين تمر في مرحلة مصيرية عنوانها حلب وأريافها، ولا شك ايضا ان عودة الرئيس علي عبدالله صالح واتفاقه السياسي العلني مع الحوثيين مؤخرا وخطاب السيد عبدالملك الحوثي الذي لأجله اخّر نصرالله خطابه نصف ساعة، كلها تعبيرات عن جبهات مترابطة أكثر من أي وقت مضى.
الخبر اونلاين