ولكنني تابعت سيري تظللني تلك الذكريات الوردية، التي ذكّرتني بتلك الأيام الخوالي… وسرعان ما تسمّرت بمكاني، بل وكاد ينعقد لساني! عندما أبصرت إحدى النساء المسنّات تمشي متعثرة بقمبازها الطويل وهي تتكئ على شابة هندية ضئيلة القامة، وكنت أظن أن تلك المرأة التي عادت من سفر الزمان، قد رحلت منذ أمد طويل…ولكنها لاحت أمامي “بلحمها وشحمها”!
تلك المرأة الفاضلة التي طالما برّدت جوفي أنا وأترابي في أيام القيظ عند عودتنا من المدرسة، وكانت دعواتها الخضراء ترافقنا حتى عتبات بيوتنا…ولطالما طبخت لكل أهل القرية في الأفراح، وبكت كطفلة يتيمة في الأتراح!
وكم فرِحْتُ عندما اومأت إليَّ بأن نجلس تحت ظلال الزيزفونة الشّابة، ولكن لسوء حظي، أقبلت أحدى بنات عائلتها المقرّبات، وترجّلت من سيارتها الفخمة بسرعة الريح، وكانت سحُنتها الشمعية، وحاجبيها الذين صممتهما “كساحرات شكسبير”، يوحيان بأنها قضت ساعات طويلة على مبضع التجميل…وبالكاد ألقت التحية علينا! حيث اعتذرت للعجوز المسّنة بأنها في عُجالة من أمرها، وناولت الشابة الهندية قدرا مليئا بالطعام وانقرضت بلمح البصر…
تبا لهذه الحياة! صحيح أن هذا الزمن المعدني جعلنا نطبخ أيام عمرنا القصير، على أتون نار لا يهمد! وأجبر النساء أن يخرجن لسوق العمل كالرجال تماما! وصحيح أن وجود هؤلاء الشابات الهنديات والسريلانكيات أصبح “موضة” مستساغة في مجتمعاتنا القروية، وأصبحوا رغم الاختلافُ، أقرب الناس لمسنينا ومسناتنا، بإنسانيتهم وخدماتهم المتفانية، لنصبح نحن الغرباء، عن أهلٍ ربونا برموش العين، ودفء القلب! ولكن الحسرة والعتب الذين ارتسما على ملامح تلك المرأة الفاضلة، جعلاني أعتب على قريبتها التي تربطها بها صلة رحم قريبة جدا…والتي لم تُطيّب خاطرها ولو بكلمة واحدة، جميلة! وكم عتبت على هذا الزمن العجيب، الذي اصبحنا فيه كلنا غُرباء… وأصبحت علاقاتنا الاجتماعية، واهنة، هشّة، كخيوط العنكبوت…مُتجاهلين أن المسن يغدو كطفلٍ صغير، ليس في حاجاته الجسدية فقط، بل في حاجته للحب والحنان والرعاية النفسية…
فارقت تلك المرأة الفاضلة بعد أن وعدتها أن أزورها كلما مررت بهذا الحي القديم، ولست أدري في المرة القادمة، إن كنت سأجدها أم لا!؟ ومن يدري!؟ ربما سأسبقها “أنا” في الرحيل عن وجه هذه البسيطة!!