بتاريخ 14-7-2016، وفي قاعة كنيسة مار يوحنا الأرثوذكسيّة في حيفا، أقام نادي حيفا الثقافيّ برعاية المجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ/ حيفا أمسية إشهار كتاب “أسرى بلا حراب”، لمُعِدَّيْه بروفيسور مصطفى كبها والإعلاميّ وديع عواودة، وذلك وسط حضورٍ مِن المُهتمّين بهذا الشأن، وقد تولّى عرافة الأمسية د. جوني منصور، مُرَحّبًا بالحضور وبمُعِدَّي الكتاب، ثمّ تحدّثَ مُعِدّا الكتاب عن عنوان الكتاب، وما يرمي إليه من إيقاظ الوعي الفلسطينيّ حول الرواية الفلسطينيّة، إذ أسمتهم إسرائيل أسرى وسجنتهم في معتقلات مغلقة وأخرى مفتوحة أقامتها لهم، رغم أنّ أغلبيّتهم الساحقة كانوا بلا حِراب، ولم يشاركوا بمجهود عسكريّ، بل نقلتهم بحافلات إلى المعتقلات، وبقوا طيلة الأيام الثلاثة الأولى واقفين متراصّين بلا طعام ونوم، ويتعرّضون للذلّ والضرب والعمل بالسخرة في معسكرات الجيش، وبتفريغ منازل المدن والقرى المهجّرة من محتوياتها، وذلك تعزيزًا للرواية الصهيونيّة، بأنّ الفلسطينيّين خاضوا الحرب وهزموا وقتلوا ووقعوا بالأسر، ومن أجل مساومة آلاف الشباب على حرّيّتهم مقابل تهجيرهم، وتطويع وتطبيع المتبقين منهم، بأساليب سيكلوجية تقوم على الترهيب والترويع والحرمان والتجويع والإذلال والترهيب، والممارسات النازية في معسكرات التركيز، وأيضًا للاستفادة منهم كقوى عاملة بالسخرة.
تحدّثا عن أهمّيّة الاعتماد على طريقة المزج بين المادّة الأرشيفيّة والروايات والمقابلات الشفويّة، في عمليّة المعالجة العلميّة المهنيّة، وعن أهمّيّة توثيق وتحليل ومعالجة بحثيّة لقضية المعتقلات التي أنشأتها السلطات الإسرائيلية للمعتقلين الفلسطينيّين العرب، في عزّ النكبة وخلال احتلال المدن والقرى الفلسطينية عام 1948، وعن أحداثِ الأسرى المُعتقلين الفلسطينيّين في المعتقلاتِ الإسرائيليّة الأولى بين الأعوام (1948-1949)، بالاعتماد على مواد أرشيفية من الأرشيفات الإسرائيليّة، وأرشيف منظمة الصليب الأحمر، وكتب ويوميّات كتبها بعض المعتقلين.
تحدّثا عن قضيّة معسكرات العمل التي أقامتها السلطات الإسرائيليّة للمعتقلين، وعن قضيّة الانهيار المفاجئ للمجتمع المدنيّ الفلسطينيّ في تلك المرحلة الحرجة، وعن قضيّة تشكيل الأقليّة الفلسطينيّة سياسيًّا واجتماعيّا وحياتيّا، وتطوُّر علاقة الشيوعيّين العرب مع (إسرائيل) ومؤسّساتها، والعلاقة بين الأقليّة العربيّة وجمهور الأغلبيّة ومؤسّسات الدولة.
تحدّثا عن خبرتهما في إعداد الكتاب ونظرتهما للموضوع، وعن ردود الفعل التي تلقياها حول الموضوع من باب الماضي، وعن نظرتهما المستقبليّة، وكيف يمكن أن ننقل هذا النصّ التاريخيّ لحاضرنا ولأبنائنا، ومن ثمّ كيف يمكن أن نستفيد منه في المستقبل، بتعزيز وتمكين وتثبيت روايتنا التاريخيّة الفلسطينيّة في وطننا
كانتْ هناك مداخلاتٌ وطرحُ أسئلةٍ مِن الحضور، ثمّ تمّ شُكر الحضور والقائمين على الأمسية، وتمّ التقاط صور الإشهار التذكاريّة!
مداخلة د. جوني منصور: هذه أمسية خاصّة مميّزة، قد تكونُ مؤلمةً بموضوعِها، لكن هناكَ مواضيعَ لا بدّ مِن أن نُعالجَها، حتى بعدَ مرور أكثر مِن ستة عقود على حدثِ جدل النكبة التي عصفتْ بشعبنا وبأرضِنا ووطنِنا. موضوع كتاب “أسرى بلا حراب”، عن الأسرى المُعتقلين الفلسطينيّين في المعتقلاتِ الإسرائيليّة الأولى بين الأعوام (1948-1949)، فالكتابُ بحجمٍ كبير يتألفُ من 332 صفحة، صادر عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة في بيروت.
هنالك أهمّيّة كبيرة جدّا باعتقادي هي التوثيق والتحليل على مختلف أنواعِهِ، سواءً كان التوثيقُ مِن خلال جمْعِ الأوراق والمُستنداتِ والوثائق على مختلف أنواعِها، والتي لا تزالُ موجودةً في عددٍ كبير من بيوت أهلِنا، في مُدننا وقرانا في الجليل والمثلث والنقب والساحل والداخل، وأيضًا بين أيدي الأهل في مخيّمات اللاجئين في الضفة الغربيّة، وقطاع غزة، ولبنان والأردن وسوريا والعراق ومصر والشتات، فهنالك حاجةٌ ماسّةٌ إلى تجميع هذه الوثائق لكي توضع على طاولة البحث لدى الباحثين في مجالات مختلفة، ليس فقط في مجال التاريخ، إنّما أيضًا في مجالاتِ العلوم الاجتماعيّةِ والأنثروبولوجيّة والسيكولوجيّةِ والأدبيّة وغيرها.
الميدان الثاني للتوثيق هو التوثيق الشفويّ، أي الشهادات الشّفويّة مِن قِبل الكبار في السّنّ الذين عايشوا فترة النكبة، وجيل ما بعد النكبة الذي استمعَ وأصغى إلى الروايات مِن قِبل الأهل عمّا حدث عام 1948. أنا لا أعتقدُ أنّ دوْرَ التوثيق هو فقط للتجميع والتخزين، إنّما هناك حاجةٌ ماسّة إلى نقل هذا المخزون من الوثائق والصّور الفوتوغرافيّةِ، والشّهاداتِ الشفويّةِ المُسجّلةِ بالتسجيل العاديّ أو السينمائيّ التصويريّ إلى الأجيال الحاضرة، كي لا نفقدَ الذاكرةَ، وهذه النقطةُ مُهمّةٌ جدّا، تُضافُ إلى النقطة الهامّةِ، وهي البحث الأكاديميّ في هذا الميدان وغيره.
الحربُ التي وقعت عام النكبة (1948) في عدد من الروايات الاسرائيليّة تطلق عليها الحرب الأهليّة، وفي المقال التأسيسيّ لهذا الموضوع، والذي أيضًا اعتمدَ عليه الباحثان لأهارون كلانن في كتاب (حرب الاستقلال) نقاش جديد صدر عام (2005)، يَذكر فيه أنّ الحرب هي حرب أهليّة، لكنّها في الحقيقة حرب اقتلاعيّة للسكان الفلسطينيّين الأصليّين أبناء هذه البلاد.
الموضوع في حد ذاته هو الحديث عن ظاهرة أو مشهد قلّ ما تحدّثنا عنه، فنحن نتحدّث عن عام (1948) والتهجير والترحيل وهدم المباني والبيوت، وتحويل وتغيير الأسماء في حيفا ويافا وطبريا وصفد وغيرها من المدن الفلسطينيّة من عام (1948) وحتى يومنا هذا، ولكن الأدبيّات التي تتطرّق إلى موضوع المعتقلين والأسرى في تلك الفترة قليلة جدّا، ويأتي هذا الكتاب ليسلّط الضوء على هذا المشهد وهذه الظاهرة الصعبة القاسية المؤلمة لأبناء البلاد، الذين تحوّلوا بفعل حرب عام (1948) إلى أسرى، وعوملوا كأسرى، وكما تدّعي الرواية الاسرائيليّة وفقا للاتفاقيّات الدوليّة (اتفاقيّات جنيف).
باعتقادي، وبناءً على المقابلات التي أجريتموها مع الأسرى والمعتقلين، أنّهم لم يسمعوا عن هذه الاتفاقيّات، اذ وقعوا فجأة في الأسر والاعتقال، ووزّعوا بين عتليت وصرفند والجليل وتل ليتفينسكي ومعتقلات أخرى.
الأمر الثاني الملاحظ، وبحاجة إلى توسّع أكبر، هو الصليب الأحمر الذي دخل إلى الخط، ليتعامل مع التقارير والأسرى عام (1948) و(1949).
المسألة الملفتة الأخرى في هذا الكتاب هي القسم الأوّل، والبحث عن كافة الجوانب للمعتقلين والمعتقلات وعن السّجانين، فقد دخل الباحثان في تفاصيل هامّة جدّا حول تعامل السّجّان مع الأسرى والمعتقلين، وهذا الموضوع بحاجة إلى تفاصيل أكثر وبحوث في المستقبل، لكنّهما وضعا الإصبع على الجرح.
لا شكّ أنّ حرب (1948) هي اعتداء على حياة الفلسطينيّين، والهدف من ورائه هو تدمير أسس حياة الإنسان كإنسان ضمن إطار العائلة والمجتمع، فهناك عائلات بأكملها تمّ تدميرُها، واختفت من هذه البقعة من بلادنا التاريخيّة التي عاشوا فيها منذ فجر التاريخ.
أمرٌ آخرُ في الكتاب لفت نظري وأشدّد عليه، هو القسم الثاني من الكتاب من الشهادات الشفويّة التي أُدرجَت كما هي، فهناك المئات من المقابلات أجراها الباحثان حول هذا الموضوع مع المعتقلين، ومع أبنائهم القريبين منهم الذين لامسوا الألمَ والوجع والجرح الذي أصابَ ذويهم.
في القسم الثالث من الكتاب هناك قوائم طويلة عريضة لأسماء المعتقلين والأسرى في تلك المعتقلات، ومن الأرشيفات الإسرائيليّة في غالبيّتها وأرشيف منظمة الصليب الأحمر، وبعضُهم كانوا من العملاء.
قرأ د. منصور رسالة (وثيقة) لديه من أحد المعتقلين من عبلين بتاريخ (7-5-1948)، يرسلها إلى ذويه في عبلين عبر الصليب الأحمر، الذي لعب في تلك الفترة دور نقل رسائل الأسرى في الوطن إلى ذويهم في الوطن فيقول: تحية وسلام وشوق واحترام..
إلى الوالدة والعائلة والأقارب والجيران، وخصوصًا إلى آل النشاشسيبي، وأبي شوقي، وكلّ من يسأل عنّا. وإذ سألتم عنّا، نحن موجودون في كامب عتليت. تأخرنا لنظافة الكامب، والأسرى جميعهم نُقلوا إلى صرفند. تركي، وديب خشّان، ورجا عيسى سكران، وحنّا دحّا يُسلّم على أبو إدريس. وأخيرًا، نحن في صحّة جيّدة وعلى التمام.
مئات من الأسماء المذكورة في الكتاب شغلوهم في التنظيف والأشغال الشاقة ورصف الشوارع والبناء، وأيضًا في تجميع محتويات البيوت في القرى المهجرة ونقلها إلى مواقع محدّدة، وفي قطف الزيتون وغيرها من المواسم المختلفة، وهناك أسماء كثيرة من المعتقلين والأسرى في المعسكرات ونقاط الشرطة في مختلف أنحاء البلاد غير مدرجة في القوائم، فمنهم مثلا جدّي في قرية المنصورة المهجرة على حدود لبنان، أخرجوه من القرية وهجّروهُ، وجزءٌ رُحِّلَ إلى لبنان، وجزءٌ ممّن بقيَ على موعد مع الضابط بالعودة بعد أسابيع، شُغّلوا في المعسكرات لمدّة نصف سنة، فالكتاب يذكر حوالي (11.000) أسير، لكن هناك أيضًا آلاف المعتقلين الذين ما كانوا في إطار سجون، لكن في إطار مخافر ومراكز شرطة.
أشكر صديقيْ الباحثيْن على هذا العمل المُضني، وعلى مجهودهما الكبير الّذي أضافاه، ومقارنة الوثائق في الارشيف مع الشهادات الشفويّة، وفي النهاية وضع الدراسة بشكلها المتكامل، لتكون وثيقة أمام المؤسّسة الإسرائيليّة التي تدّعي لغاية اليوم، أنّ هذا الأمرَ مسكوتٌ عنه لا يُثارُ بالرأي العامّ، وأنا باعتقادي، أنّه آن الأوانُ لفتح كلّ الملفات التي تتعلّق بهذا الموضوع بالفعل، لتكون علامة قويّة جدًّا أمام المؤسّسة الإسرائيليّة.