ما فكّرت يوما أن أطلب من أولادي وأحفادي أن يقرأوا الكتب التي قرأتها في سنوات شبابي، وأن يستمعوا إلى الأغاني الّتي أحببتها وما زلت أحنّ إليها، وأن يعجبوا بالممثّلات والممثّلين الذين شدّتني أعمالهم، فما طمحت أن يقرأ أحدهم مؤلّفات المنفلوطيّ وروايات جرجي زيدان وعبقريّات العقّاد وحتّى ثلاثيّة نجيب محفوظ، أو أن يحفظ عن ظهر قلب قصائد وأبيات لشعراء غيّبتهم الحياة وطواهم سفر التّاريخ الأدبيّ مثل: الرّصافيّ وعلي محمود طه المهندس ومحمود حسن إسماعيل،أو أن يشنّفوا آذانهم بأغاني عبد الوّهاب وأسمهان والسّيّد مكّاوي ونجاة الصّغيرة، أو أن يسهروا ليلة كاملة حتّى مطلع الفجر مع المذياع الذي يبثّ سهرة “السّتّ” وهي تردّد “أراك عصيّ الدّمع” وتحمل كلّ ردّة عصافير الجنّة وأزهارها، أو أن يطربوا محلّقين في الفضاء مع “ليالي الأنس في فيينا” أو ” جفنه علّم الغزل” أو ” يا ليل، الصّبّ متى غده ؟ “، وأن يشاهدوا أفلاما أبطالها محمود المليجي وتوفيق الدّقن وشادية وفريد شوقي.
الزّمان يجري ويجري وما كان شائعا وسائدا ومحبوبا وشعبيّا في العقد الخامس أو العقد السّادس من القرن الماضي من الصّعوبة أن يجد له مكانًا في هذا الأوان على الرّغم من أنّ الأعمال الفنيّة الرّاقيّة في الموسيقى والأدب والرّسم وغير ذلك من الفنون الإنسانيّة ، تبقى خالدة حيّة مؤثّرة لعقود بل لقرون إلا أنّها لن تكون شعبيّة.
وكيف لي أن أطلب اللامستطاع من حفيدي وأنا أرى أنّ البنطلون الذي يرتديه لا يمكن أن أرتديه حتى لو ” جلدني المطوّع مائة جلدة” وبخاصّة إذا كان هذا البنطلون ممّزقًا مشرشطًا كأن مرتديه مرّ في دُغُل من الأشرطة الفولاذيّة، وأنّ الحذاء الذي ينتعله لن أنتعله حتى لو سرت حافيًا، وأنّني لو قصّصت شعر رأسي أو ما تبقى منه قصّة المارينز لقرأ معارفي آية الكرسيّ فوق رأسي عشر مرّات.
كان المرحوم والدي يفضّل “بيت عتابا” للحطّينيّ أو الرّيناويّ أو الأسديّ على مواويل سيّد درويش وعبد الوهّاب وكنت معجبا بتحيّة كاريوكا وعبد السّلام النّابلسيّ وإسماعيل ياسين ولو ذكرت هذه الأسماء أمام أحفادي لابتسموا وتعجّبوا وقالوا: “دقّة قديمة!”
لكل جيل أغانيه وممثلّوه وشعراؤه وقصائده ورواياته وطعامه ولباسه.
وأبناء الجيل الجديد، وفّقهم الله، يسمعون كاظم السّاهر ونجوى كرم وعاصي الحلانيّ ونانسي عجرم ومادونا وشاكيرا وكوكبة رائعة من الفنّانين، ويحفظون عن ظهر قلب نشيد “موطني” ويقفون له وللوطن إجلالاً، وهم منفتحون على العالم ومتواصلون معه بوسائل لم نعرفها ولم نحلم بها. ويؤثّرون ويتأثّرون بما يجري في الوطن وخارجه، ولا يحقّ لنا أن نزعم بأنّنا وطنيّون أكثر منهم. أو ندّعي بأنّنا فلسطينيّون ثوريّون زيادة عنهم، ولماذا لا نعترف سرًّا وعلانيّة ونفخر بأنّهم هم الذين ملأوا ميدان التّحرير في القاهرة وشارع الحبيب بورقيبة في تونس وساحة الأمويّين في دمشق وميادين بغداد وطرابلس.
وهم الذين يقاومون الاحتلال في الأراضي الفلسطينيّة بشجاعة، وهم الذين أفشلوا “مشروع برافر” الصّهيونيّ وملأوا حيّ الألمانيّة بحيفا من سيف البحر حتّى أصل الكرمل!!
هذه الجيل سوف ينجح فيما فشلنا به.