حدثني رجل ثقة ممن كان يعمل بالقرب من الشهيد القائد الإنسان الرئيس ياسر عرفات أبو عمار، أنه وزملائه كانوا في ليالي الشتاء يتجمعون بالقرب من بيت الرئيس، ويوقدون النار ويشربون الشاي ويأكلون الخبز ويتسامرون وكثيرا ما كان يفاجئهم زعيم الثورة الفلسطينية، بتواضعه وإنسانيته، فيصافحهم ويسلم عليهم بلا استثناء، ويجلس معهم ويسألهم عن أسرهم وأطفالهم وما يحتاجون، ويضيف أنهم كانوا أحيانا يتعمدون أن يتجمعوا لكي يطل عليهم الأب الحنون ياسر عرفات ويفرجون بمجالسته لهم، وأنهى حديثه وقد نظر بعيدا حابساً دموعه في عينيه قائلاً: والله يا صديقي، اشتاق له وكأنني أريد الآن أن أجلس هناك وأوقد الناس وأنادي على الشباب لكي يحضر لنا الحنون ياسر عرفات .
إنه ياسر عرفات، الأخ ياسر عرفات كما كان يحب أن يناديه الكبير قبل الصغير، عاش حياته بسيطا ومناضلا، يتنقل بين غارات الموت لتستمر الثورة بالمواجهة، فليس سهلاً أن يكون الإنسان قائدا للشعب الفلسطيني، هذا الشعب الذي ظلم ولازال يعاني من التشريد والحصار والتدمير والقتل وكل أنواع الإرهاب المنظم وغير المنظم، ولقد تميز الشهيد ابوعمار بحسه المرهف، وقدرته على الاستماع لأدق التفاصيل ويحاور ويناقش بهدوء ويشارك الجميع الأفراح والأتراح ليكون عنوانا في التضحية والفداء، ولم يكن السهر يرهقه ولا ساعات العمل الطويلة، بل كان حزنه على أبناء شعبه وهو يعلم أن كل مراحل الوصول للحرية والتحرر تمر بمنعطفات خطرة وقاسية جدا، ولهذا كان دائم الحضور في الميدان، لا ينتظر التقارير ولا الاتصالات، بل كان جنديا خلف الدبابة وخلف الرصاصة وخلف المدفع لأنه آمن منذ البداية أن الثورة يجب ان تنتصر، وكان عميق التفكير والوعي والإدراك للمتغيرات الدولية والعربية، ولم تكن كلماته مجرد كلمات بل كانت بوصلة التقدم نحو الوطن والقدس والأمل الذي يتسلح به المكافحين من الشعب والمناضلين في كل مواقع الصمود والتحدي، لم يكن قائدا لحركة فقط، بل كان ثوريا ورئيسا للشعب الفلسطيني، يؤمن بوحدة الشعب وقدسية الأرض والهوية، لذا ففي كل المجالات له بصمته وحضوره، وأحبه الجميع، الأطفال والنساء والشيوخ والشباب والمقاتلين والمدنيين وحتى الأعداء أيقنوا أن ابوعمار هو الرقم الصعب الذي لا يمكن أن ينحني او يستسلم .
لقد حاول الأعداء دائما اغتياله، اغتيالا معنويا وسياسيا وجسديا، لكنه كان دائما يخرج منتصرا وأكثر صلابة وقوة وتقدما، وكان يقول أن روح ابوعمار في جسد أبو عمار، وأن القضية تسكن كل روحه وجسده، لهذا يريدوا أن يغتالوا الحلم الفلسطيني والقرار الفلسطيني والإرادة الفلسطينية، ولكنهم “الأعداء” يجهلون أن روح ابوعمار مزروعة في كل أرواح الشعب الفلسطيني، أبو عمار الإنسان المتواضع، صاحب البدلة الكاكية والكوفية الفلسطينية، حتى صارت الكوفية تعني ابوعمار والثورة والقضية، فحين اغتالوا أبو عمار بقيت روحه مزروعة في كل الأرواح وستبقى، وبقيت الكوفية تزين الرجال والنساء ويعرف بها الفلسطيني في كل مكان، بل أصبحت الهدية التي تقدم لكل من يزور فلسطين أو من يكرم بالهدايا الثمينة.
أبو عمار الذي راهن الكثيرون على فشله بعد انطلاقة المارد الفتحاوي والحركة الفلسطينية التحررية “فتح”، بعد ثلاثة سنوات من الانطلاقة، وبعد “النكسة” والهزيمة العربية، وبعد أن سيطر اليأس على القلوب والعقول العربية والإسلامية، كانت “الكرامة” وهي استعادة الكرامة والثقة بالنفس وبالأمل في الغد ولقد شكلت معركة الكرامة في 11/3/1968م بداية مرحلة جديدة من النهوض الثوري، وسقطت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وتحولت أفكار وخطط القائد العام ياسر عرفات ورفاق الدرب الثوار، الى مدرسة في كيفية تحويل حرب الشوارع والعصابات الى حرب تهزم جيش نظامي مدجج بكل أنواع الأسلحة والمعدات الحربية، والتحق الآلاف بالثورة متطوعين وفدائيين وأصبح ياسر عرفات الرقم الصعب في مواجهة الاحتلال المتغطرس، وتحول رهان الفشل الى النجاح في انتزاع اعتراف العالم بمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، ليكتب التاريخ أن ياسر عرفات عنوان القضية وقد اجتاز الطريق الصعب والمتناقضات متسلحا بشعبه وقضيته ليستمر في قلوب الشعب وعنوانا للقضية.