قبل ستة أعوام وعلى “صمت الحصاة في الدم”، كتبت مقالة سأقتبس بعض ما يلي منها، مع ما يستوجبه الحاضر من تغييرات طفيفة على النص كي يستقيم المعنى وتتحقق الغايات.
ستة أعوام مرّت وصوت العقل بيننا يخفت، ويبح مع كل طلقة تخترق اللحم الغض وتجلجل، والسماء سكرى تشلح مع كل شفرة خنجر تهوي على خاصرة روابينا الكواعب، زرقتها، لتصير فصولنا كلّها “خراريف” نيلية غضبى والشتاءات تنسكب حسرات تغرق ليالي العاجزين والثواكل.
صار الرصاص عندنا سيّد المعادن، وعلى أبواب مدائننا ” تدق الأكف ويعلو الضجيج”. كما تغنى الشناوي في عام عز، وفي فراشنا يستوطن الخوف، ويمتلئ الأثير بالرياء الضاحك والدعاء المر، والخرس يُستنخب ملاذًا، والعمى بصيرة ، ويتوج الصمم نباهة والانزواء يتمختر مراجل وشطارة.
ستة أعوام مرّت لنصبح في بحر من زئبق ودخان ورصاص ، فقبل أم الفحم وبعدها سنحيي تاريخنا الشاحب ونكتبه بطباشير من وهم، لنشهد كيف يمحوه غزاة مجتمعاتنا الجدد بمحايات من خل ومن عدم . قبل ستة أعوام كتبت:
٢٠١٠/١/٩
“قائمة المهددين” كانت الهدية الأولى التي تلقتها جماهيرنا العربية مع مطلع العام الجديد. تضمنت هذه القائمة، وفقاً لما جاء في الأنباء، أسماءَ عدد من رؤساء المدن والقرى العربية، الذين يعيشون تحت التهديد المتواصل، مما استلزم تحذيرهم من قبل شرطة إسرائيل وإرشادهم ليتخذوا وسائل الحيطة والحذر ومطالبتهم باتباع جملة من التعليمات التي من شأنها أن تقيهم شر ما ينتظرهم، وتضمن سلامتهم، وهذا ما نتمناه.
قبل نشر هذا النبأ وبعد كل اعتداء عنيف أو دموي مباشر على البشر أو على المؤسسات، كما يحصل في معظم قرانا ومدننا العربية، تتعالى أصوات محقة وتتهم الشرطة الإسرائيلية بالتقاعس. وبعض هذه الأصوات، وصل إلى حد إتهام الشرطة على أنها شريكة بتأجيج وتائر العنف فهي غير معنية بمجابهته، وإلا، هكذا تتساءل تلك الأصوات، كيف تفسر الشرطة إخفاقاتها المزمنة بالكشف، في معظم حالات الجرائم المرتكبة بين وضد المواطنين العرب، عن الجناة رغم هذا العدد الكبير من الاعتداءات الخطيرة؟.
على الشرطة تقع المسؤولية الأولى في ملاحقة الجناة وعليها المسؤولية في الكشف عنهم واتخاذ كافة الإجراءات القضائية اللازمة لمعاقبتهم . لا يوجد مبرر مقبول أو معقول لهذه الإخفاقات ولن يكفِِ إدعاء بعض قادة هذا الجهاز بضيق الحال وشح المصادر والقوى البشرية وما إلى ذلك من حجج سئمناها، لا سيما ونحن نخبر ونعيش ” نجاعة” عصيها وقسوة ممارسات أفراد هذا الجهاز عندما يكون الأمر متعلقاً بهدم بيت عربي،على سبيل المثال، أو بالتصدي لمظاهرة أو مسيرة عربية، والشواهد على ذلك كثيرة.
حفظ الأمن العام وسلامة الجمهور هو من أهم أهداف عمل جهاز الشرطة في الدولة الحديثة، وأخطر ما يترتب من نتائج عندما تخفق الشرطة بتأمين هذه الأهداف، هو فقدان المواطن لثقته بهذا الجهاز، فما بالك وهنالك شعور سائد، تبرره جراح المواطنين التي نزفت مرارًا وسقوط الشهداء، بأن الشرطة متواطئة ومعنية بإغراق مجتمعنا في مستنقع العنف والاقتتال الداخلي؟إنها حالة مقلقة وخطيرة.
مع ذلك، فإن إبقاء الوضع السائد على ما هو عليه وتخمير شعور المواطنين العرب ومضاعفة ارتيابهم المبرر حول نوايا ومخططات جهاز الشرطة، كما ذكرنا أعلاه، يضر بالنهاية بمصالحنا الأساسية ويؤثر على شعاب حياتنا وفضاءات عيشنا، ولذلك يجب على قياداتنا الشعبية والجماهيرية والسياسية أن تتدارس إمكانيات تغيير هذا الواقع من خلال وضع خطط غير مسبوقة وشاملة، حتى لو كنا نعرف أن المؤسسة الرسمية معنية بابقاء الفاقة على ما هي عليه .
في المقابل، لا تكتمل الصورة ولا يصح التشخيص إن حمّلنا كامل المسؤولية عن سوء واقعنا على كواهل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وسياساتها فقط، فكثيرون بيننا يشيحون أبصارهم، عمدًا أو خوفًا أو تقيّةً، عن مظاهر الفساد المستشري ومنابع العنف في مجتماعاتنا وعن سوء الإدارة في مؤسساتنا الجماهيرية والمدنية وفي مقدمتها بعض مجالسنا البلدية والمحلية.
فرئيس مجلس ينتخب وهو مرفوع على ظهر صفقات إنتخابية مشبوهة ومعروفة لمعظم الناس، ليمضي بعدئذٍ في مشوار رئاسته ونير هذه الصفقات معلق في رقبته، يكون عاجزاً وغير قادر على الوقوف في وجه ما ينهش أجساد قرانا ويقض مضاجع أهالينا.
ورئيس بلدية يستعين بزمر من البلطجية قبل وخلال وبعد معركته الإنتخابية، يعدم حقه بأن يشكو من عبث المعربدين العابثين في شوارع بلدته والمعتدين على أمن وسلامة المواطنين وحرمة بيوتهم.
ورئيس مجلس يعبث في موارد بلدته ليضمن، مثلًا، ضمّ أرض مقربيه أو شركائه أو آسريه لمسطح القرية ويقوم بتفصيل الخرائط الهيكلية والمواقع الهامة في إدارته، على مقاسات من معه في دار السلم ومن في دار الحرب ضده، لا يستطيع أن يتحدى بأهلية بيكار ومسطرة لجان التنظيم المحلية واللوائية، حينما تبطش هذه بمسطحات قرانا لحساب تلك المنطرة أو ذلك الكيبوتس.
ورئيس يقسّم راتبه الشهري، على بعض من نوابه أو القائمين بأعماله أو رؤساء كتل معه ويدفع لهم فتاتاً، من وراء الكواليس، ليشتري دعمهم وصمتهم، لا يستطيع أن يستهجن صمت وتواطؤ الشرطة، كما نتهمها بعد كل حادثة وجريمة، ففي النهاية هذه الشرطة هي ذاتها، التي تغمز لأولئك الرؤساء وتهمس أمامهم” لقد دفناه سويًا” وتغض الطرف عما تقترفه يمنى إولئك الرؤساء وتمارسه يسراهم.
الدولة والشرطة مسؤولتان، في البداية والنهاية، وعليهما أن تؤمنا أمن وسلامة المواطن والمجتمع، وهما لا يفعلان ذلك، سيان إن تقصيراً أو عمداً. الثقة لدى الجماهير العربية في جهاز الشرطة مهزوزة وهنالك ما يبرر ذلك. إعادة وتأهيل هذه العلاقة واجب يقع على الدولة والشرطة أولاً، لكننا يجب أن نكون معنيين بذلك أيضاً وعلينا مهمة المحاولة في هذا الإتجاه. إسرائيل وشرطتها لن تندفعا لترميم هذه العلاقة وتحسينها طواعية، لكن هذا لا يعفينا من المحاولة الجادة والمسؤولة وهنا يبقى السؤال هل يستطيع كفنا بما اعتراه من صدئ الفساد أن يلاطم مخرزهم الصدئ؟”…
ست سنين عجاف مرّت ونحن نندفع على ذات المنزلق . حصادات الموت قصفت أعمار ما لا يشبعها من ورد ونرجس وزنبق. “ساحات البلد” هزمت، وصارت عتبات البيوت متاريس البشر الأمامية، والبيوت قلاعهم والسترة ملاجئ. ذاب “الكل” على فوهات البنادق وتشظوا، والعزوة الوطنية فتتتها عصي السماوات ونداءات القبائل، وطمستها زغردات الحمائل وشوهتها أعراس المصالح، ونحن، اللابدين في همسات الليل نرقد “ونسمع بين الضجيج سؤالًا، وأي سؤال وتسمع همهمة كالجواب وتسمع همهمة كالسؤال، أين؟ ومن وكيف إذًا؟”.
والكل يفتي والكل يجيب ويقولون: إسرائيل مجرمة والشرطة شريكة، الفقر مذنب، والإحباط قاهر،العولمة قدر والعنف مصير، البيت أصل غائب، والمدرسة حضن عار، كهنة كالحيط المائل، وأئمة تحترف التخويف والتكفير وتنذر، وقالوا: كلّهم جناة ولكن نحن نظفاء ومن هذا الدم أبرياء!
من كان هناك ولم يفلح لن يفلح في ستة أعوام أخرى، ومن كان يمشي في جنازات المغدورين وخنجره تحت أثواب الحداد لن يجلس تحت رايات الصبح والسلم وأجنحة الحمام، ومن صدأت حنجرته وهو يطلق تراتيل الذبح والنحر لن يكون في صف الهداة والسراة ولا من أهل الود والتمام . ستة أعوام مرت ولم نقتنع، أن البلاء قادم والدم غدار وهادر، فلنعلم اليوم قبل أن يصيح الديك ثلاثًا، أننا أصحاب هذا المهر والنهر والمهر وكل من حسب أن البيت آمن قد يفيق على صرخة نجمة فقأ عينها سيف فاجر.
كيف ومن يوقف النزيف؟ سأعود إلى ذلك النشيد فهو من زمن لم يكن فيه التاريخ كاشح: ” وصاح من الشعب صوت طليق، قوي، أبي، عريق، عميق، يقول: أنا الشعب والمعجزة، أنا الشعب لا شيء قد أعجزه، وكل الذي قاله أنجزه”
فهيا لنقل : كفى للذل، كفى للعجز، كفى للخوف، كفى للموت ، وهيهات المعجزة!