أعلن في الحادي عشر من نيسان الجاري، في مدينة الناصرة، عن تأسيس حزب “الوفاء والإصلاح”، والذي سيكون “حزبًا سياسيًا جماهيريًا غير برلماني يستلهم منظومته من القيم الإسلامية”، وذلك وفق ما جاء على لسان رئيس الحزب، الشيخ حسام أبو ليل.
الإعلان عن تأسيس هذا الحزب جاء في مؤتمر صحفي عقد في الناصرة، وذلك بعد أن تمت الدعوة إليه بنص وزع على وكالات الأنباء وأفاد بعمومية واضحة كما يلي: “يتشرف حزب الوفاء والإصلاح في الداخل الفلسطيني بدعوتكم لتغطية المؤتمر الصحفي للإعلان عن انطلاقته كحزب جديد على الساحة السياسية وذلك يوم الاثنين .. حيث ستتحدث قيادة الحزب ورئيس لجنة المتابعة السيد محمد بركة”، وفعلًا شارك محمد بركة في ذلك الحدث.
من اللافت أن الدعوة، التي لم تسبقها أية حملة ترويج أو تعريف أو تقديم، لم تسمِّ أسماء أولئك القادة، كما ولم يشر محرروها إلى أية تفاصيل أخرى فيما يتعلق بمنظومة هذا الحزب أو ببرامجه السياسية أو رؤاه الاجتماعية أو مفاهيمه الثقافية أو خططه الاقتصادية. لقد كانت الدعوة أقرب إلى تلك البيانات السرية التي ألفناها في شرقنا خاصة في زمن الانقلابات وما رافقها من إثارة وضبابية.
معظم المواقع التي تطرقت إلى خبر تأسيس حزب “الوفاء والإصلاح”، خلصت على أنها خطوة نحت إليها الحركة الإسلامية الشمالية بعد أن قامت السلطات الإسرائيلية بالإعلان عنها كحركة محظورة؛ وبعض المعلّقين، مثل الإعلامي اللامع وديع عواودة، كتب “إن الشمالية قرّرت بحق تحاشي الصدام والمواجهة ومحاولة تفريغ القرار الإسرائيلي المستند لقانون الطوارئ من مضمونه بالخطوة خطوة وبهدوء، لا سيما بعدما تنبهت أن المجتمع العربي لم يبد الاهتمام المطلوب لعدة أسباب تتعلق بها وبه وبالعلاقات التبادلية”، وفي تلميح ذكي منه عن معنى تلك الخطوة في القراءة الإسرائيلية الأمنية الرسمية ينهي مقاله بسؤاله الكبير: “هل فعلا سيعتبر الإسلاميون الجدد من تجارب قديمة هنا وهناك لا سيما أن الصمت السلطوي ليس رضا بالضرورة”، فالصمت، هكذا نفهم، قد يكون رضا وقد لا يكون!
من المفروض أن تستأثر خطوة تأسيس حزب سياسي جديد باهتمام ما، خاصة في مجتمع يتقلب وجعًا تحت ضربات السياط التي تحز بدنه دون هوادة، من كل شرق وغرب ومن تحت وفوق، وعلى الرغم من كونها حدثًا استثنائيًا في حياة المواطنين العرب في إسرائيل نراها مرّت بسرعة الزفرة، كعنة مريض ضاعت في ديوان تملأه الضجة وتسوده اللامبالاة. فأين قادة أحزابنا والقيمون على مؤسساتنا المدنية من فكرة تأسيس حزب إسلامي جديد؟ أين مفكرو الوطن وأكاديميوه المثقفون مما قاله المتحدثون الأربعة، أو ربما مما لم يقولوه؟ أين الذين سمعوا رئيس لجنة المتابعة يصرح باسمنا جميعًا ما صرّحه وتغافلوا عن مساءلته لماذا وكيف ومن أين له أن يعلن أن: “وجودي هنا بصفة رئيس لجنة المتابعة والتي تجمع الجميع تحت سقف واحد، وأنا متحيز للعمل الوحدوي في هذه البلاد، وأن المبرر لوجود الحزب أنه يأتي ليغطي حيزا، ويتحدث مع الجميع، وأنا من معرفتي بالقائمين على الحزب نرى أنهم يعملون لمصلحة الجميع، وليس لأهداف فئوية، ونحن نتمنى النجاح لهذا الحزب وتحقيق أهدافه”، فمن أين لرئيس المتابعة، محمد بركة، تلك القناعة على أن القائمين على الحزب يعملون لمصلحة الجميع وليس لأهداف فئوية؟ ونحن مثله لم نقرأ ولم نسمع ولم نشاهد برنامج الحزب ومواقفه أزاء القضايا الأساسية التي تهمنا وتقع في صلب مصلحة الجماهير كما يفهمها كثيرون من بيننا، وعندما أقول “القضايا الأساسية” أعني: برنامج الحزب السياسي وموقفه من حل القضية الفلسطينية ومسألة الدولة الوطنية، مفهوم الحزب للسلطة المدنية وأحكامها ومصادر الشرعية فيها، مكان الثقافة على تفرعاتها وموقف الحزب منها، مكانة المرأة ودورها في العمل السياسي والاجتماعي، مكانة الحريات الفردية الأساسية، رأي الحزب في الآخر وفي الديني الآخر، موقف الحزب من إسرائيل ونظامها ومن الشراكة السياسية مع قوى يهودية إيجابية، وأخيرًا، ما هي منظوماته التي سيستلهمها من القيم الإسلامية، على حد تعبير رئيس الحزب، وكلنا يعرف كم فئة حولنا تتحدث باسم تلك القيم الإسلامية وإلى أين أفضى بعضها، وما إلى ذلك من مسائل لا يمكن إغفالها وعدم الوقوف عندها واستجلاء كنهها قبل أن يعلن الرجل الأول في هرمنا السياسي، أو أي جهة أخرى، أن القائمين على هذا الحزب يعملون ليس لأهداف فئوية !
مباشرة بعد القرار الإسرائيلي بحظر الحركة الإسلامية كتبت شاجبًا أنه “رغم اختلافي معها فأنا ضد القرار الإسرائيلي”، وها أنا أصرح من باب التأكيد ودرء السوء، على حق الإسلاميين، أسوة بكل مجموعة بشرية أخرى، بالانتظام في أطر حركية أو حزبية، لكنني أرى أن الإقرار بهذا الحق يوازيه حق الغير بالاختلاف معهم، ويلزمهم بقبول الانتقادات والنقاشات والتحاور، فأنا متيقن أن ما صرحوا به في المؤتمر الصحفي يخالف كثيرًا من معتقداتهم المعلنة ويخفي بعض المعطيات الأساسية ويموه من مواقفهم المشهرة من على أكثر من منصة ومنبر، فمن الملاحظ أن مداخلات المشاركين الأربعة باسم الحزب الجديد كانت مقتضبة وتلغرافية، وما كاشفوا به الجماهير جاء شحيحًا، وما أخفوه ولم يقل كان أكثر، وأهم مما قيل وكشف. مع هذا وإن كان ذلك مبررا، عند البعض، ومغفورا لهم لأنهم يسعون إلى البقاء ناشطين في ما يتيحه الحيز القانوني الإسرائيلي، فلن يكون ما قاله محمد بركة مقبولًا ولا لرئيس المتابعة العليا أن يصرح ما صرحه عن تلك المبادرة وهو يعلم، أو كان يجب أن يعلم، ما هي هويات المتحدثين السياسية، لأنها معلنة ومصقولة وقسماتها تملأ وسائل الإعلام وقنوات اليوتيوب. فحزب الوفاء والإصلاح لم ينشر ما ينطبق وتقييمات بركة ولا ما يساند توقعاته من ذلك الحزب كما أكدها، بل على العكس تمامًا، فالمتحدثون في المؤتمر الصحفي اكتفوا بنثر إشارات دقيقة تمكّن كل مستمع لها أن يفهمها على راحته وهواه ، فالإعلان عن “ميلاد حزب الوفاء والإصلاح كحزب سياسي جماهيري غير برلماني يستلهم منظومته من القيم الإسلامية” يقول الكثير ولا يقول شيئا، وتأكيد رئيس الحزب، وهو الذي كان النائب الثاني لرئيس الحركة الإسلامية الشمالية، حرصه على “المحافظة على كافة ثوابتنا الوطنية”، يستدعي تهافت جميع أحرف الاستغاثة والنداء وعلامات التعجب والسؤال عن ماهية هذه الثوابت الوطنية، وعندما يتعهد المتحدثون على أنهم سيعملون على “خدمة جميع أهلنا في الداخل ومشاركتهم في الحزب وشعارنا وفاء وانتماء” تكاد أشرطة الفيديو المسجلة بنفس الأصوات والأفواه على اليوتيوب أن تنطق وتتقطع.
قد تكون مشاركة بركة في هذا الحدث من باب شعوره بتلك المسؤولية الأبوية على جميع فئات الشعب، وقد تكون رهانًا واستثمارًا في خيار يأمل أن يقود المؤسسين إلى تغيير مواقفهم السياسية وتبديل مواقعهم الاجتماعية، وقد تفهم على أنها سقطت مع ثمرة المخاجلة ومن تربطه ببعضهم وشائج صداقة، وقد تحتمل تفسيرات أخرى، لكنها على جميع الأحوال، تبقى، برأيي خطوة متسرعة وقرارًا غير محسوب بشكل صحيح.
فليس من الصعب التعرف على مواقف رئيس الحزب الجديد المعلنة في جميع المسائل التي يجب أن تشغل بال محمد بركة الإنسان والشيوعي والقائد، فأشرطة اليوتيوب تطفح بخطب الشيخ وفتاويه، في الحب وأعياده، وفي النصارى واحتفالاتهم، وفي الوردة الحمراء وعشق الكرة، وآرائه فيمن لا يوافقه الموقف والعقيدة والايمان معلنة ومشهرة، وتبقى أكثرها إيجاعًا تلك التي وصف فيها رئيسٓ القائمة المشتركة، ورفيق بركة في الهوى والوجع، بالسوسة وبالقزم المتطاول، وبالمتخلف الهمجي.
للمبادرين حق بتأسيس حزبهم السياسي، ونقاشنا يبقى مع ما قاله بركة فكم كنا نريد أن ننضم إليك، يا رفيقنا، وأنت تتمنى للحزب الجديد النجاح في تحقيق أهدافه، لكننا ونحن نشاهد ما نشاهد ونسمع ما نسمع، كيف نفعل وقد نمسي كمن حمل صحيفة المتلمس؟
فهل تعرف أشياء لا نعرفها ولا يعرفها الأثير والشعب؟