على أُمِّ طريقِ القوافلِ، سِدْرةٌ لا يعرفُ أحدٌ اسمَها. لا اسمَ لها. لا بدايةَ للمبتدَا، ولا نهايةَ للمُنتَهى. زمَانٌ يفيضُ بالطّميِ والنّسيانِ فوقَ ضفافِ مكانٍ يفيضُ بالنَّقشِ والمحوِ فوقَ ضِفافِ الزّمان.
يقولونَ عنها هُنا إنّ الله زرعَ في البدءِ فَيْئًا في شظيَّةِ وَحلٍ خاويةٍ، ثمّ فوقَ الفَيْءِ جَذْعًا، وفوقَ الجذعِ خُضرةً شبهَ دائمةٍ وأعشاشًا مُعلّقةً بأجنحةٍ ملوّنةٍ بريشةِ كهلٍ شقيٍّ، وفوقَ الخُضرةِ غيمًا يروحُ ويأتي فيضحكُ ثمَّ يبكي ثمَّ يمضي ليشربَ من بَحرٍ بلا ساقَيْن. ويقولونَ، هُنا، علّقَ فوقَ الغيمِ قمَرًا يُوزّعُ حتى الثّمالةِ منديلَهُ الهيوليَّ وأحلامَهُ الخفيفةَ وثديَهُ الفضّيَّ على الأجفانِ المُسدلَةِ والنّوافذِ والسُّطوحِ، وأقامَ شمسًا تنثرُ ظلَّها على مَنْ يكرُّ ومَن يفرُّ ومَن يمرُّ ومَن يعيشُ ومَن يموتُ ومَن يحطُّ ومَن يطير.
طرقٌ تلتقي على مقرُبَةٍ.
أبواقٌ باردةٌ تستبدلُ الصّهيلَ الشّهيَّ.
حُقَنٌ كيماويَّةٌ تأخذُ دَورَ الحنطةِ والشَّعير. وسوفَ يقولون، عندَ التّقاطُعِ: المفترقُ التِقاءٌ، كتِفًا إلى كتفٍ، صدرًا على صدرٍ وأُنملةٌ تمسكُ خَصرَ أُنمُلَةٍ. أو يقولونَ يومًا، إنَّ الملتقى مفترَقٌ؛ سيقانُ ياسَمينةٍ تهربُ من وجْهِ بابٍ دمشقيٍّ حزين. ويقولون هذا عناقٌ بينَ عاشِقَيْن؛ رغيفٌ واحدٌ يكفكفُِ دمعَ ألفَيْنِ، مِزقةُ تينٍ تسترُ عورَتَيْن، زغرودةُ أُمٍّ نهرُ حليبٍ يجمعُ الأفواهَ في قُبلةٍ تحتَ أجنحةِ الرّماحِ بينَ الضّفَتَيْن. ويقولون يومًا هذا افتراقُ الظّلِّ ظِلَّيْن. تُفّاحُ الرّوايةِ يُفرِّخُ في الزّجاجِ تُفّاحًا هوائيًّا.
ثمَّ يظلُّ يموتُ القائلون، منذ أنْ نما الفيْءُ هُنا، ويمضي السّامعون، منذُ أن مرَّ الغيمُ هُنا، وتعيشُ في الفيْءِ الحِكايةُ، سِدرةً بلا اسمٍ، من قبلِ البداية حتى إلى خلفَ ستارِ الخِتام.
خريفٌ يعودُ، كلّما تعودُ الرّيحُ إلى ملء أكياسِها المثقوبةِ بما تيسّرَ من غبار الصّيفِ وتجاعيدِ الورَقِ القابلِ للاصفرارِ والانكسار. وسوف يقولونَ، كلّما ساءَ المزاجُ، إنَّ المُلتقى مفترقٌ؛ حسرةٌ مُقشَّرةٌ على شفتَيْنِ في وُجهَتَيْن نقيضتَيْن. ويقولونَ، كلّما طابَ المزاجُ، وردٌ يقفزُ من وَجنات الصّبايا، وعينانِ تُنوِّرانِ لَوْزًا تحتَ نخيلِ الحاجِبَيْن.
لكنَّهم، تحتَ السِّدرةِ التي نسِيَت اسمَها، يغوصونَ في الرّماديِّ السّرمديِّ، وينسون مرّةً أخرى. ولسوفَ ينسونَ الذي قالوا ومَن قالوا والذي سمعوا ومَن سمعوا ومَن رقصوا بالمناجلِ والمعاول ومَن عفّروا بوجهِ الأرضِ تُرابَهُم، ويخرجونَ من قلبِ الحكاية بقلوبٍ عاريةٍ وشهوةٍ مُحسَّرةٍ ولؤلؤةٍ فارغةٍ وعيْنٍ قاحلةٍ ويدَيْنِ خِرقتَيْن.
وسوفَ يقولون، في المسافةِ المزروعةِ بسيفِ اليقينِ وسِكّةِ الشَّكِّ، في المسافةِ الشّاسعةِ بينَ شفتَيْن اثنتَيْن:
سيرحلُ الفيْءُ، مرّةً أخرى، إلى نجمةٍ مُسافرةٍ،
لعلَّ اسمَها الأرضُ.