قلتُ سأحضِّرُ حُلُمي على مَقاسي، وأزركشُهُ بما تشاءُ الشَّهْوةُ والخَيْبةُ والتنسُّكُ عن كلِّ السِّوى(1) والخَيالُ.
جِمَالٌ، بدفعٍ رباعيٍّ وخفافِ ماغنيزيوم وسقفٍ يطيرُ منه شَعْرُ سائحةٍ شقراءَ، تمرُّ من هُنا. تتقلّبُ السَّماءُ في بورصا التّأويل وتأويلِ التّأويل وحوانيتِ الذَّهَب. نوقٌ تحملُ براميلَ ماءِ الينابيع البَعيدة، وتموتُ في مدينة الإسمنتِ وعندَ شاراتِ المُرور من شدّةِ العطشِ.
…
يخادعُني حُلُمي، فأضبطُهُ فوقَ وسادتي.
يقولون: ها نحنُ ننسى الصِّفْرَ سهْوًا، في رحلتِنا الأخيرة من بلادِ الهندِ والسّندِ. ها نحنُ نُشعلُ لائحةَ الخوارزميّاتِ(2) في كومَةِ الأثافي(3)، لوليمةِ الصَّوْمِ وصناديقِ الزَّكاة. وها نحنُ نحتسي قهوةً يمنيّةً مستوردةً من ميلانو، مُهلّاةً(4) بفتاتِ خارطةِ ابنِ بطّوطة، ونَعُدُّ من الواحدِ حتّى التِّسْعةِ، بالتَّمامِ والكمال.
….
واحدٌ، اثنانِ، ثلاثةٌ.
ثمَّ نُعلِّبُ اللهَ في عُلَبٍ زهرِيَّةٍ للهدايا أو تلاواتٍ مفخَّخةٍ للحُروب. ونحلُمُ أننا نتّكلُ على الواحدِ الأحد، فنُسقِطُ آثامَنا على طفلٍ، إبهامُه المقطوعُ في فمِهِ ثديًا افتراضيًّا، بعينَينِ مُغمِضتَيْن على أُفُقٍ، أو على تقاعسِ ألفِ امرأةٍ لمْ يُسعفْهُنَّ الوقتُ لمواراةِ عوراتهنَّ في ترابٍ متوتِّرٍ بين غارتَيْن. وها نحنُ نصلّي على عجَلٍ، فوق اللّزومِ، فعسى أنْ نقتني بالمجّانِ قمرًا نُعلِّقُهُ على شُبَّاكٍ تفحّمَ على مشكاتِه عِطرُ الياسمين.
…
ويقولون نركضُ بينَ بابَينِ، على طريقٍ مُسوَّرٍ بالأشواكِ والعَسَسِ المُدرَّبِ في السَّرايا في اقتفاءِ عاشقةٍ في دروبِ غرناطة. ثمَّ نُطلِّقُ، بالثَّلاثِ، حِبْرَ الفُراتِ وأربعَ زوْجاتٍ ووالدةَ الزُّبَيْرِ وجدَّةً تستصرخُ الهِمَمَ على أبوابِ الثُّغور.
…
نعدُّ للتِّسعةِ، في قمّةِ الحُلُم الجميل.
سيقولونِ يتكاثَرُ الرمحٌ هُنا، ليصيرَ مُخمَّسًا في الخاصرَتَيْن، وينرزعَ في الأكْبَادِ المعروضةِ للأكلِ ترتارًا(5) شهيًّا في سوقِ الضَّغينةِ. ونحلُمُ بالمُسدَّسِ آخذًا دورَ الخنجَرِ المسمُومِ تحتَ العَباءاتِ السَّميكة. ويقولون السَّبْعةُ فوقَ أبوابِنا، رقمَ السِّحْرِ المعطوبِ منذ أكثرَ من ألفيّةٍ. ويقولون الثّمانيَةُ هي المُطلَقُ المنزّهُ عن أوهامِنا، يقومُ على ساقَيْهِ، فيستحيلُ قزمًا يسجُدُ واقفًا ويختنِقُ برائحةِ القَدَمَيْن. ونحلمُ بالتِّسعةِ تبحثُ عن شكلِها في الخِيامِ المسكونةِ بالبَرْدِ والعَارِ.
….
هنا، لا غيمةَ من جرادٍ. لا ضفادعَ تستبدلُ حبَّات العِنَبِ. ماؤُنا معدنيٌّ بامتيازٍ. لا مُكعّباتٍ من البرَدِ التّوراتيِّ، ولا حجارةَ من سِجّيلٍ. لا خِرفانَ مذبوحةً على عتَباتِ البُيوت. أبكارُنا لقمةُ مدفَعٍ. لا نجومَ تنهمرُ بُثورًا على حريرِ وجوهِ الصَّبايا، في اللَّيالي المسكونةِ بالعشقِ القديمِ وانتظار القمْحِ.
وهُنا، لا ذُبابَ يُوزِّعُ الطّاعونَ على فئرانِ الأزقّة.
….
يخونُني حُلُمي، مرَّةً أخرى.
يسقطُ طقمٌ من الأَصفارِ، من السّقفِ، نقاطًا ودوائرَ في الشّوارع.
ثمَّ، في السّاعة السّابعةِ، أجلسُ أمام طاولة مُصدّفَةٍ في دمشقَ، وأحلُمُ بصحوَتي.
وأفيقُ على صوتٍ يعلنُ عن استئنافِ اللَّعنةِ العاشرة.
_______________________
إضاءات:
****
(1) السّوَى مصطلحٌ ابتكره الصوفيُّ “النّفّريّ” (القرن الخامس الهجري)، ويعني كلَّ ما يعيقُ الاتّصالَ بالمُطلق.
(2) نسبة إلى عالم الرّياضيّات الشّهير أبي حعفرالخوارزمي (القرن التّاسع الميلادي). وهي معادلات/خطوات في الرّياضيَات ٌهامّة جدًّا، ما زالت تستخدم حتى اليوم، لأهمّيتها، وتسمّى باسمه أو تحت اسم “ألغوريثمات” أو “لوغريثمات”.
(3) الأثافي،جمع أُثفِيَة، وهي الحجارة (عمومًا ثلاثة) التي تقام عليها المواقد وتقف عليها القِدرُ. وثالثة الأثافي هي الجبل.
(4) مُهلَّاة، اشتقاقٌ (مِنّي) من كلمة “هيل” أو “هال”، وهو نبتٌ من فصيلة الجنزبيليّات، يثمر بذورًا تستخدمُ في القهوة وغيرها، وتسمّى في مصر “الحبَّهان” وفي المغرب العربي “القعقل”. وفي مدينة حمص سوقٌ شهيرة تسمّى “سوق الهال”.
(5) التّرتار، هو السّتيكُّ النَّيءُ، ويُقدّم هكذا في بعض المطاعم.