إيحاءاتُ الكلمةِ وسِحرُها لدى الشّاعرة آمال عوّاد رضوان!// د. هاشم عبود الموسوي

 

לכידה

كلمة ُ شكر من آمال عوّاد رضوان:  مُهمّة فحصِ بريدي الإلكترونيّ الأدبيّ تستوجبُ مُتابعتي، فما كان أسعدني برسالة الموقع العراقيّ تللسقف، تنبئُني بنشرها دراسة نقديّة لد. هاشم عبود الموسوي، تتناولُ بعضَ نصوصي الشعريّة المنشورة لديها، وتحت عنوان “إيحاءاتُ الكلمةِ وسِحرُها لدى الشّاعرة آمال عوّاد رضوان!” مغبوطةٌ نصوصي بنقّادِها الذين ما عرفتُ أحدًا منهم مُسبقًا، وبكامل الموضوعيّةِ والنزاهة تفاعلوا مع حقيقةِ حرفي المُشاكس، بل وبمصداقيّةٍ عاليةٍ ورعايةٍ فائقةٍ، كم أُثمّنُها وأُقدّرُها هذه الجهود النقيّة! تحياتي لك أستاذي د. هاشم عبود الموسوي، لهذه الإضافة الثقافيّة النوعيّة، ولإدارة “موقع تللسقف” التي لا تتوانى في إبلاغي بكلّ جديد يخصّني لديها!

 

د. هاشم عبود الموسوي: يُعتبرُ انتقاءُ الكلماتِ (الألفاظِ)، والإحساسُ العالي بآثارِها الخفيّةِ، وما تَنطوي عليهِ مِن مَعانٍ مُتعدّدةٍ، هو أحدُ الأسبابِ الّتي تُميّزُ العبقريّاتِ الأدبيّةِ، فبعضُ الكلماتِ توحي بأكثرَ مِن مَدلولِها الظّاهريّ، ويَتجدّدُ المقياسُ الفنّيُّ في تقديرِ قيمةِ اللّفظِ، بمَدى قدرتِهِ الفائقةِ على خلقِ إيحائيّةٍ خاصّةٍ بهِ، فهو مَجالُ الانفعالاتِ النّفسيّةِ والتّأثُّرِ الدّاخليّ للإنسان، وقيمةُ اللّفظِ تتأثّرُ بهذهِ الإيحائيّةِ ونوعيّتِها قوّةً وضعفًا، فكلّما كانتْ إيحائيّةُ الكلمةِ عاليةً، كانتْ قيمةُ تلكَ الكلمةِ فنّيًّا عاليةً، والعكسُ بالعكس.

الإيحاءُ في اللّفظِ يُفصِحُ عن شاعريّةِ الأداءِ والفهْمِ الواعي لسُلوكِ اللّغةِ، وما تُلقيهِ الكلمةُ مِن مَعانٍ خبيئةٍ، هي صَدى تَراكُمِ الخبراتِ الفرديّةِ والجماعيّةِ، التي صاغتْ نَسيجَ التّجربةِ النفسيّةِ والاجتماعيّةِ للشّعبِ المُتداولِ لغةً واحدة.

في قصيدة ” يَابِسَةٌ.. سَمَاوَاتِي” للشّاعرة الكبيرة آمال عوّاد رضوان، تتصاعدُ لديْها قيمةُ اللّفظِ  بشاعريّةٍ فذّةٍ، حينَ تُموْسِقُ أحاسيسَها قائلةً:

 

عَلَى خَدِّ شُعَاعٍ مُضَمَّخٍ بِالدَّهْشَةِ

ثَ رْ ثِ رِ ي نِ ي .. صَدًى

لِأَرْسُمَ.. بَعْثَــكِ الْمُشْتَهَى

***

قَلْبِي..  يَــــكْـــــــبُــــــــــــــــرُ  بِكِ

وحينَ يَـ~جْـ~ـمَـ~ـحُ شَجْوا

تَــــتَـــيَـــقَّـــظُ .. ثُغُورُ رَبِيعِي الــ غَفَا

***

مَبْسُوطَةً .. تَمْتَدُّ رَاحَةُ فَجْرِكِ

مُخَضَّبَةً.. بِحَنَانِ أَنَامِلِكِ الظَّمْأَى

وحِينَ أَلْثُمُهَا.. يَتَّقِدُ عَبَثِي

***

عَلَى شَفَتَيْكِ .. أَعْزِفُ ابْتِسَامَتِي

وأغذو وَارِفَ الْمَدَى

أَلا يَـــــتَّـــــــــسِـــــــــــعُ.. لِأَوْتَارِكِ الْبَحْرِيَّة؟

     وعندما نتّفقُ، على أنّ الكلماتِ داخلَ اللّغةِ تُمثّلُ حِسًّا يَحملُ دلالةً إلى مَعنى، فهذا يَتطلّبُ مِن الأديب والشّاعرِ، أن يَنتقي الألفاظَ الّتي يَستخدمُها في نتاجاتِهِ الأدبيّةِ، حسَبَ ما تُمليهِ عليهِ ذائقتُهُ اللّغويّةُ وحِسُّهُ الجَماليّ، لأنّنا نَعتقدُ، بأنّ تجويدَ اللّفظِ يُمثّلُ ذوْقًا جَماليًّا واعيًا، تتّصِفُ بهِ نفسُ الأديبِ، فمتى بلغتْ هذا الوعيَ، ستكونُ مَنبعَ مَعانٍ. وهكذا نستمرُّ نتذوّقُ ترنيماتِ هذهِ الشّاعرةِ الفذّةِ بذاتِ القصيدة:

سَمَاوَاتِي الْمُضِيئَةُ.. انْطَفَأَتْ

مُنْذُ .. أَلْفَ عامٍ.. وَغَيْمَة

وَمَا انْفَكَّتْ سُحُبِي .. تَتَحَجَّبُ

خِشْيَةَ الصَّوَاعِقِ وَالنّكَسِاتِ

إنّ علاقةَ الأديبِ باللّغةِ مَصحوبةٌ بنوعٍ مِنَ التّعالي النّفسيّ المُتبادَلِ، أو على نحوٍ أدَقّ، بنوعٍ مِن التّجاوُزِ يُبديهِ كلٌّ مِنهُما للآخر، إذ يَسعى أحدُهُما لسَحْبِ الوظيفةِ الّتي يَرومُ الآخرُ تأدِيَتَها. فإذا كانَ “التّوْصيلُ” يُعَدُّ غايةَ الوظيفةِ اللّغويّةِ والاستعمالِ للألفاظِ، أي؛ المحافظةَ على ثباتِ المَعاني المُتداوَلة، وتكريسَ ما تَضَخَّمَ عبْرَ التّراثِ التقليديِّ للتّوْصيلِ الجَماعيِّ أو داخل المَعاجم اليوْميّة، فإنّ اللّغةَ الأدبيّةَ تُخلخِلُ هذا المفهومَ وتتخطّاهُ، فلا يَعودُ “التّوْصيلُ” مُجرّدَ طريقةٍ في السّلوكِ المُتداوَلِ أو الاستجابةِ المُتعارَفة، بل يَتجاوَزُ المَعنى المُعجَميَّ اليوميَّ انحرافًا وانزياحًا، فيكونُ الشّعرُ مثلًا لاحتواءِ النّقائضِ، وانغماسًا حدسيًّا لإظهارِ الخفاءِ، أو لاكتشاف المُتجانِسِ بينَ المُتخلّفاتِ، فالشّاعرُ يُفكّرُ بالكلماتِ للوثوبِ إلى المُستقبل.

إذًا؛ يتجلّى التّعالي بينَ اللّغةِ والأديب، في أنّ الأخيرَ يَعتمدُ على كلماتِها اعتمادًا مُطلَقًا، ويَرغبُ في الوقتِ نفسِهِ إلى تَجاوُزِها، وإلى سَحْبِها نحوَ فضاءاتٍ لم تَألفْها، فهو كما يَذكُرُ سعيد الغانمي: (يخونُ اللّغةَ والوعيَ النّمطيَّ بأنظِمَتِها)!

اللّغةُ تتّجهُ إلى الماضي، والشّعرُ يتّجهُ إلى المُستقبلِ، فاللّغةُ تَتحاوَرُ معَ ما يَنسجمُ والسّياقِ الاجتماعيّ، والشّعرُ يَتنكّرُ لهذا السّياقِ، فالكلمةُ في اللّغةِ تَذكيرٌ، بينما الكلمةُ في الشّعرِ حضورٌ واحتمالٌ.

هكذا تتوَجّهُ بنا آمال عوّاد رضوان إلى مُستقبلٍ واسعٍ رحبٍ، مِن قطوفِ غنائمِ الكلماتِ المنتقاةِ في قصيدتِها  “نَاطُورُ الدُّجَى” حينَ تقولُ:

 

ظِلاَلُ ثُقُوبِكِ

تَيَقَّظَتْ .. مِنْ مَكَامِنِهَا

تَتَجَنَّى عَلَيَّ

تَعَرَّجَتْ

فِي أَزِيزِ سَقِيفَةٍ .. مَتَأَهِّبَةٍ لِلْمَشَاكَسَةِ

لكِنَّهَا

تَرَهَّلَتْ ذَائِبَةً

عَلَى مَرْمَى صَهِيلِكِ الْمَوْشُومِ بِالنَّدَى

وَمَا فَتِئَتْ تَدُكُّ

أَمْوَاهَ نَارٍ انْتَصَبَتْ أَطْيَافًا

عَلَى رِمَالِ الآهِ

وَمَا هَجَعَتْ!

   ومِن ناحيةٍ أخرى يقولُ د. لطفي عبد البديع حولَ الكلمةِ، مِن حيث هي “علامةٌ” لغويّةٌ مَبنيّةٌ على طبقاتٍ وأنماطٍ كلّيّةٍ مِنَ التّفكير، تَخلقُ لدلالاتِها “مِثاليّةً” لا تُغادرُها، إلّا باستعمالِ الأديبِ الشّخصيّ، فيُحيلُها إلى دلالةٍ “نفسيّةٍ” تَعكسُ وجدانيّتَهُ، ذلكَ، أنّ ألفاظَ اللّغةِ مِن حيث “الوضع”، تُشيرُ إلى معانٍ كلّيّةٍ، أو مَفاهيمَ تُمثّلُ المُدرَكاتِ الحِسّيّةِ والمُجرّدةِ معًا، كمَصاديقَ جُزئيّةٍ لها، فكأنّ اللّفظةَ ماهيّةٌ أو مِثالٌ تَحملُ في أحشائِها أفرادَها، أو أنواعَها الّتي تُشيرُ إليها، فمِثاليّتُها تَتلخّصُ في أنّها نمَطٌ واحدٌ لهُ وجوهٌ كثيرة، في حين يَسعى الشاعرُ إلى اختراقِ اللفظةِ؛ تلكَ الدّلالةِ الكلّيّةِ، وتَحويلِها إلى دلالةٍ نفسيّةٍ تُعبّرُ عن حقائقَ وجدانيّةٍ خاصّةٍ تمورُ بها ذاتُهُ، فتطبعُ العملَ الأدبيَّ بطابعِ الفرديّةِ، أو الذاتيّةِ الّتي تتميّزُ بها التّجربةُ الجَماليّةُ.

لكنّ الحديثَ يتّصفُ بالمُغالاةِ، عن دلالةِ الكلمةِ مِن حيث هي “لفظةٌ مُفردَةٌ”، إنْ كانَ يَسعى فقط نحوَ تأكيدِ جانبِ القوّةِ الّتي تمتازُ بها “الكلمةُ” لذاتِها، فمَهما قيلَ عن حَجمِ تلكَ القوّةِ، أو مدى التأثير الّذي تُحدِثُهُ، فإنّ “السّياقَ” الّذي تَجيءُ بهِ اللّفظةُ، هو في حقيقةِ الأمرِ ما يُحدّدُ الدّلالةَ الأدبيّةَ، ويُميّزُها عن غيرِها مِنَ الدّلالاتِ والمَعاني الّتي توحي بها.

ليست اللّغةُ مُجرّدَ تأليفٍ بينَ الحروفِ والكلماتِ، ولكنّها نظْمٌ على المَعاني، يُصيبُ موْضِعًا مِنَ النّفسِ، كما أنّ الكلماتِ تُشحَنُ بالمعنى وهي داخل بنائِها الغنيّ، وهي كذلك، ليستْ  خارجَ ذلك البناءِ، إلّا مِن قبيل حمْلِها المَعنى المُعجميِّ والمتواضِع عليه.

إنّ “مَعنى” النّصِّ الأدبيِّ يَعتمدُ على حركةِ الألفاظِ وعمَلِها، وعلى تأدِيَتِها لوظيفةٍ ما داخلَ النّظامِ البنائيِّ لوحداتِ النّصّ. ويُؤكّدُ كلٌّ من “رينيه ويليك” و “أوستن دارين” بأنّ الكلمةَ لا تَحملُ معها فقط معناها المُعجميّ، بل هالةً مِنَ المُترادفاتِ والمُتجانساتِ، والكلماتُ لا تَكتفي بأنْ يكون لها معنى فقط، بل تأثيرُ معاني كلماتٍ تتّصلُ فيها بالصّوتِ، أو المعنى، أو بالاشتقاقِ، أو حتى بكلماتٍ تُعارضُها أو تَنفيها. ولنرَ كيفَ وَظّفتْ شاعرتُنا المُبدعة آمال عوّاد رضوان شحْنَ الكلماتِ بالمَعاني، وأدخلَتْها في بناءِ قصيدتِها:

 

 

بَاغَتَنِي

بِإِفْكِ طُقُوسِ تَسَكُّعِهِ الْمُتَطَفِّلِ

:

خَلْفًا دُرْررررر … اسْتَدِرْ حَيْثُكْ

أَنْتَ وَغَدُكَ الْفَضْفَاضُ فِي غلاَلَتِهِ

بَدِيدَانِ.. رَمِيمَانِ!

***

اُنْظُرْكَ .. لَبْلاَبًا مَنْسِيًّا

لَمَّا يَزَلْ يَكْتَظُّ بِالْقَيْظِ

فِي صَحَارَى مَاضٍ .. تَحَلْزَنَ بِالْحُزْنِ.

***

هَا ضَفَائِرُ نَخْلِكَ

الْتَهَبَ فَجْرُ تَمْرِهَا

فِي سَرَاوِيلِ دَهْرِ ضَارٍ

ونَشِيدُكَ الْخَاشِعُ

كَمْ شَعْشَعَ مُتَفَيْرِزًا

مُرَفْرِفًا

هَا قَدْ شَاطَ نَبْضُهُ

عَلَى جُسُورِ تَلَعْثُمٍ .. مُتْخَمٍ بِالتَّفَتُّتِ!

***

يَا أَيُّهَا الْبَحْرُ الْعَارِي

مِنْ مَوْجِكَ الْوَثَّابِ

أَلْقِ مَا بِرَحْمِ تَبَارِيحِكَ

مِنْ أَصْدَافِ مُحَالٍ

لَمْ تَكْتَمِلْ بِمَعْبُودَتِكِ!

***

أَيَا سَاهِيَ الْقَلْبِ

هَوًى.. هَوَسًا

كَمْ يَقْتَاتُكَ يَمُّ الإِسْهَابِ

وَتَتَدَلَّهُ وَاجِفَا!

***

مَرَايَا عَزَاءٍ .. تَوَعَّدَتْكَ مُقَهْقِهَةً

أَشْعَلَتْ أَدْغَالَ أَضْلُعِكَ بِالإِعْيَاءِ

وَاسْتَنْزَفَتْ أَغَارِيدَ قَلْبِكَ النَّحِيلٍ!

***

لِمَ حَبَّرَتْكَ زَمَنًا بَهْلَوَانِيًّا

شَفِيفَ وَحْدَةٍ

كَسِيفَ تَرَنُّحٍ

عَلَى حَافَّةِ مَعْقَلٍ مُعَلَّقٍ؟

 

    إنّ الاستعمالَ الأدبيَّ المُبدعَ لدى شاعرتِنا آمال، ظلَّ قادرًا على أنْ يُفجّرَ في الكلمةِ ذخيرتَها المَعنويّةَ والمَعرفيّة، وحُدودَها النّغميّةَ والبنائيَّةَ معًا، بما يَكشفُ عن إمكانيّاتٍ غيرِ مُتوقّعةٍ في اللّغةِ، وحقائقَ مَجهولةٍ داخلَ حياتِها، وإذا كانتِ اللّفظةُ الشّعريّةُ قادرةً على التّحرُّكِ بعفويّةٍ وبدلالاتٍ مَعنويّةٍ حُرّة، فإنّ حركةَ اللّفظةِ الشّاعرةَ ضِمْنَ نسيجِ صورتِها، لا تَنفصِلُ عن السّياقِ الشّعريِّ العامّ، وعن النّسيجِ الكُلّيّ للقصيدة.

وربّما أستطيعُ هنا أنْ أختتمَ هذه المقالةَ المُقتضَبةَ جازمًا، أنّ السّياقَ الشّعريَّ الّذي تتميّزُ بهِ الشاعرةُ الكبيرة آمال عوّاد رضوان، تستطيعُ الكلماتُ فيهِ أنْ تَفرضَ علينا طريقتَها في الوجودِ،

حيثُ تُنعشُ الكلماتُ الّتي تختارُها بعضُها بعضًا، ويُؤثّرُ بعضُها على بعض، مِن خِلالِ لونٍ مِنَ التّفاعُلِ اللّفظيِّ الدّاخليِّ، الّذي لا يُجيدُهُ غيرُها.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .