حديث أدبي:
ب. فاروق مواسي
…………………………………………….
الفرزدق ينحِت من صخر، وجرير يغرِف من بحر
ما المعنى؟ وأيهما أشعر حسب الحكم؟
******************************
في هذا البحث هناك روايتان:
الأولى:
أن القائل هو مالك بن الأخطل الشاعر، وكان أبوه قد سمع عن تهاجي الفرزدق وجرير، فكلف ابنه أن يتجه إلى العراق ليأتيه بخبرهما.
عندما رجع مالك أخبر أباه وقال:
“وجدت جريرًا يغرِف من بحر، ووجدت الفرزدق ينحِت من صخر”.
قال الأخطل:
“الذي يغرف من بحر أشعرهما”.
(وردت هذه القصة في البيان والتبيين للجاحظ ، ج 4، ص 273، وفي الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني- ج 11، ص 64، وفي طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي ج 3، ص 451.)
………….
أما الغرْف من البحر فهو يدل على انسياب شعره، وسهولة الأمر عليه، وسرعة القول في كل باب من أبواب الشعر.
وأما النحت من الصخر فهو دال على قوة السبك واعتماد الشاعر على غريب اللفظ وعلى التعقيد، ووفقًا لذلك شهد العلماء للفرزدق، فقالوا: “لولا الفرزدق لضاع ثلث اللغة”.
….
من هذه الرواية فهمنا أن الأخطل حكم لجرير، بل سخر من الفرزدق،
حيث أتبع ذلك بقوله:
إني قضيتُ قضاء غيرَ ذي جَنَفٍ *** لما سمعت ولما حاقني الخبر
أن الفرزدق قد شالت نعامته … وعضه حية من فوقه ذكر
……………………
وتنتهي الرواية بأن الأخطل عاد ليهجو جريرًا في ظرف آخر.
…
إليكم هذه الرواية الثانية المغايرة:
“اجتمع الفرزدق وجرير والأخطل عند بِشر بن مروان (والي الكوفة) وكان يغري بين الشعراء، فقال للأخطل:
احكم بين جرير والفرزدق!
فقال: أَعفني أيها الأمير!
فأبى الأمير إلا أن يقول:
هذا حكم مشئوم. الفرزدق ينحِت من صخر، وجرير يغرِف من بحر.
فلم يرض جرير بذلك وكان سبب الهجاء بينهما”.
(طبقات فحول الشعراء لابن سلام ج3، ص 474.)
….
إذن هذه رواية أخرى مختلفة، تدل على أن المقولة قالها الأخطل نفسه، ولم يرض جرير بها، فاعتبر الأخطل متحيزًا للفرزدق، والسبب في رأيي أن جريرًا قدّر أن الغرف من البحر يعني سهولة التناول، وذلك لم يكن في قياس الشاعرية، فمدار الشعر كان يقوم آنذاك على الصلابة والجزالة.
رفض جرير حكم الأخطل بأنه يغرف من بحر، فهجاه، وذكر بيتًا اتهمه فيه بالسكر، فلا يجوز حكمه:
يا ذا العباية إن بشرًا قد قضى *** ألا تجوز حكومة النشوان
…
سؤالي الآن:
ما هو موقف الأخطل الحقيقي، هل هو يفضل جريرًا كما في الرواية الأولى التي استنتجها مما ذكر ووصف ابنه؟
أم أنه أراد أن يستسهل شعر جرير ويفخّم شعر الفرزدق- تبعًا لمفاهيم العصر- الأمر الذي أغضب جريرًا ؟
قد يساعدنا الفرزدق نفسه في فهم المقولة التي يراها الأخطل:
قال الفرزدق:
“ما أحوج جريرًا مع عَفافه إلى صلابة شعري، وأحوجني مع شهواتي إلى رقة شعره!”
(نقلاً عن كتاب أحمد الإسكندري ومصطفى عناني: الوسيط في الأدب العربي وتاريخه، ص 177.)
إذن هو يعترف له برقة شعره ويراها تفضيلاً كذلك، بل عندما توفيت زوجة الفرزدق لم تجد النوادب شعرًا يرثين به إلا شعر جرير في رثاء زوجته، وقيل إن الفرزدق رثى زوجته ببعض شعر جرير في رثاء حزرة.
…
ثم لماذا نستبعد الحكم لجرير في هذا الوصف- “يغرف من بحر”، والفرزدق نفسه يقول:
“يأتي علي وقت يكون فيه قلع ضرس أهون علي من قول بيت شعر”.
(انظر العقد الفريد لابن عبد ربه ج5، ص 327.)
…
ملاحظة: إذا صحت الرواية الأولى فإن مالك بن الأخطل هو صاحب القول المأثور، وله ذائقة نقدية يعتمد عليها والده الشاعر الأخطل، بل يكلف ابنه في موضوع يشغل باله، وهذه مسألة فيها نظر.