|
تشييع جثمان المغدور نشأت عصفور
// ترجمة أمين خير الدين
نشأت عصفور، أب لثلاثة، يعمل بكدٍّ في الملحمة، قُتِل عن بُعْد وهو في طريقه، عائدا من دكانه إلى بيته. كما يبدو بدون ذنْب، الناطق بلسان الجيش الاسرائيلي: حدث إخلال بالنظام، وتُفْحص ظروف الحادث.
الآن يتجوّل الطفل جمال مع قُرْص معدني معلق بعنقه عليه صورة والده، طفل صغير لطيف، قُتِل والدُه برصاص جنود الجيش الاسرائيلي، وكما يبدو دون أيّ ذنب، تمشيطة شعره كتمشيطة شعر جستن بيبر، أخوه محمد يقبّل المعزين ثلاث قبلات دون أن يعرف من أين أتوا، هو أيضا بنفس تمشيطة جستن بيبر، يلبس الأخوان ملابس رياضية سوداء مع قيطانات خضراء فاتحة.
جمال ومحمد خمس وستّ سنوات (على التوالي)، مع أختهم ليال ابنة السنتين، أيتام جُدُد في سنجل، عمل والدهم في الآونة الأخيرة في ملحمة إسرائيلية للطيور في منطقة عَطَروت، كان يعبر يوميا طريق المتاعب عند حاجز قلنديا، ويعود آخر النهار إلى البيت.
عدا زوجته وأبنائه الثلاثة والتدريب على الكرة الطائرة التي أحبّها ـ كانت سنجل بطلة الضفة الغربية في كرة الطائرة ـ لم يكن له اهتمامات أخرى في الحياة، مُعْظم وقته في الملحمة، في طريقه إليها ومنها.
قبل ثلاثة أسابيع، يوم الجمعة، يوم الاستراحة، خرج عصفور بعد الظهر من بيته إلى حفل زفاف صديق، في قاعة أفراح في القرية، في الحيّ الجديد من سنجل، ليس بعيدا عن بيت والديه، حيث نجلس الآن، بيت عصفور في الحيّ القديم والفقير من سنجل، وقد قرر أن يرجع بعد أن قدم الهدية والتهنئة، وبعد أن تناول شيئا من الطعام، عاد حوالي الرابعة والنصف، بعد الظهر، مع ابن عمه تامر عصفور في الشارع المحاذي لسفح الجبل.
قبل ذلك بساعتين، دخلت إلى القرية قوّة عسكريّة، كما يبدو ثمانية جنود من مشاة الجيش عبروا القرية من الجنوب إلى الشمال. لسنجل مدخلان، دخلت القوّة من أحدهما لتخرج من الآخر، التقت القوّة بمجموعة فتيان ألقوا عليها الحجارة، وحسب أقوال الجنود، إنهم ردّوا برصاص حيٍّ وقنابل صوتية، ولم يطلقوا قنابل غازات، أصيب أحمد علوان 26 عاما، برجله من الرصاص الحيّ خلال استعراض الجنود لقوّتهم داخل القرية الفلسطينية، نُقِل بسيارة إسعاف إلى المستشفى في رام الله.
لقد تجاوزت الساعة الرابعة، وقد أنهى الجنود دوريّتهم، ووقفوا عند المنحدر، بالقرب من مخرج القرية، بالقرب من لافتة لمخزن في آخر سنجل، ذات البيوت المنتشرة على الجبل، وتفرّق الفتيان، وبقي أقل من عشرة منهم، وحسب أقوال الشهود كان عصفور في أعلى الشارع، والجنود في أسفله، المسافة، بينهما، هوائيا 150 – 200 متر، والمنحدر شديد، ظلّ بعض الفتيان يلقون الحجارة بمقاليعهم، معظم الحجارة، إن لم تكن كلّها، لا تتجاوز المسافة الكبيرة، وحسب أقوال الشهود، عصفور لم يشترك في إلقاء الحجارة والتي لا تشكّل خطرا على القوّة العسكريّة.
الجبل شديد الانحدار، كان الجنود عند أسفله، وكان عصفور في أعلى السفح، عندما وصل إلى جدار من الحجارة، وُضِع عليه، لسبب ما، مقعد مرحاض، كأنه عرض فنّي، أطلق أحد الجنود الواقفين عند أسفل الجبل عيارا ناريا، أصاب بطن عصفور وخرج من ظهره. قال عصفور لابن عمّه انه أُصيب، ظن ابن عمّه أنه يمزح، لكنّ عصفور وقع على الطريق، أنزل تامر ثوب عصفور فلم ير أثرا للدم، فقط رأى ثقبا صغيرا في البطن، بعد أن أداره رأى الدم ينزف من ظهره، كانت سيارة الإسعاف قريبة، فنقلته إلى المستشفى في رام الله.
وصل المستشفى بدون نفس أو نبض، وبعد محاولات إحياء، عاد النبض، لكن بلا فائدة، أُدْخِل إلى غرفة العمليات، وأُعْطي عشرات من وجبات الدم، وفي الثامنة والنصف مساء توفي، تقرير الوفاة الذي كتبه الدكتور خالد حسيب: وصل إلى غرفة الطوارئ بعد ن أُصيب حسب أقوال أحد فراد العائلة بنيران جندي إسرائيلي، مع إصابةِ دخولٍ للرصاصة وإصابة خروج لها، ونزيف قويّ وإصابة الأوعية الدمويّة المركزيّة، نُقِل إلى غرفة العمليّات حيث توفي عند الساعة الثامنة والنصف مساء.
قال الناطق بلسان الجيش الاسرائيلي “انه في يوم الجمعة بدأت أعمال شغب عنيف بالقرب من قرية سنجل، وخلالها ردّت القوّة العسكريّة المتواجدة في المكان بإطلاق النار في إطار “نظام توقيف مشتبه”، تلقينا خلال اليوم تقريرا عن قتيل فلسطيني، وحتّى الآن لم نتلق بخصوصه مستندات طبيّة، حاليا تُفْحص ظروف الحادث، وبعد ذلك ستقرر النيابة العامة العسكريّة الخطوات التي ستتخذ”.
وقفنا حيث كان الجنود يقفون، ثمّ صعدنا حيث قُتِل عصفور، نبح علينا كلب، بيوت مستوطنة شيلو إزاءنا، الطريق الصاعد إلى لبون على الجانب الثاني، ترمسعيّا في السهل تحتنا، وشارع رقم 60 يخترق السهل من تحتنا، “إنسان بسيط” يقول الوالد الثاكل جمال: “كلّ مَن في القرية أحبّه” بعد إطلاق النار بقليل، اتصل به مجهول وقال له إن ابنه قد أُصيب، ظنّ أن الإصابة طفيفة، من رصاصة مطّاطيّة، فلم يتأثّر حتى رأى في الفيسبوك أنّ إصابة عصفور خطيرة، اتصل على الفور بسائق سيارة الإسعاف، وهذا قال له إن الإصابة خطيرة، انطلق على الفور إلى المستشفى، لكن بعد مرور ساعات أشاروا عليه أن يعود إلى البيت ليستريح، وعندما وصل إلى البيت سمع بكاء النساء فعرف، ثم سمع من التلفزيون المحلي تصديقا عن وفاة ابنه.
“لماذا دخل الجنود إلى القرية؟ للاعتداء على الناس، لملاحقتهم، لإهانتهم؟ وظيفتهم حماية المستوطنين، على الشارع في الأسفل، لماذا يدخلون القرية؟ ولماذا يطلقون الرصاص الحيّ بهذا الشكل الإجرامي؟” يسأل بعد أن أوقد مدفأة الكاز كي يُبدّد البرد، هناك في شبّاك في الطابق الثاني ثقبان من رصاص الجنود الذين أطلقوا النار في الأسابيع الأخيرة،” تخيّل لو كانت امرأة أو ولد بجانب الشبّاك؟ هكذا يُطْلقون النار “بدون رحمة” ويتابع الأب: كان نشأت أبا لأطفال، انه رجل عاقل، عامل مُتفان في عمله، هل كان يلقي الحجارة؟ يعمل في إسرائيل بتصريح، لم يتورط بشيء أبدا، هل كان يلقي الحجارة بعد خروجه من حفل الزفاف!؟”.
في اليوم التالي. يقول الأب: وصل ضباط من مكتب التنسيق والارتباط، لبحث ظروف الحادث ومقتل نشأت. في البداية كانوا يظنون أنه قُتِل في شارع رقم 60 بعد ذلك اقترحوا أنه ربما قتل من رصاصة طائشة من العُرْس. وفي كلّ الحالات لا يوجد مجال هوائي مفتوح بين قاعة الفرح والمكان الذي قُتِل فيه ابنه.
يحفظ عبد الرازق، أخو عصفور، في محموله صورته بالبذلة من يوم فرح أخيهم في الصيف. “لقد فقدته القرية”، عاد الأب ليرثيه، لن يجدوا له مثيلًا، يحمل في جيبه رسالة لابنه جمال كتبها في نهاية الحداد بعد الأربعين: “مر أربعون يوما على رحيلك، كأنّها ألف عام، كل يوم، كل دقيقة، كيف تركتنا بدون إنذار يا أبا جمال”. |